الخميس: 02/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

هل تُورَّث القيادة؟

نشر بتاريخ: 09/07/2016 ( آخر تحديث: 09/07/2016 الساعة: 20:16 )

الكاتب: المحامي محمد حمدان

"فرخ البط عوام" من الامثال الشعبية التي تجسد نظرية الربط العضوي بين الآباء والأبناء في كل شيء، فيكون الإبن نسخة طبق الأصل عن والده ويكون الوالد هو الصورة الأصلية، كما أن المرأة متهمة أيضاً اجتماعياً بهذه النظرية استدلالاً بالمثل الشعبي القائل "اقلب الجرة على تمها بتطلع البنت لامها".

لا شك أننا نرث من آبائنا وأمهاتنا الكثير من الصفات، بسبب الإتصال الإنساني الطويل واعتبار الآباء والأمهات النافذة الوحيدة لأبنائهم الى العالم الخارجي، فهم القدوة وأصحاب التجربة والنصيحة والحلول لجميع المشاكل، فقد نرث صفات خلقية وخُلقية، قد نرث المال والأعمال والعلاقات الإجتماعية وغير ذلك من الصفات والسلوكيات، وقد نرث كذلك حسن الحظ بأن يكون أحد الوالدين من أصحاب السلطة والنفوذ، فعندها قد نرث وظائف عامة.

كشف الإعلام الفلسطيني عن الكثير من الحالات التي تتحدث عن توريث وظائف عامة من الآباء المخضرمين الى الأبناء المدللين، بعض الحالات تحقق فيها الشرط الأساسي لإتمام التوريث على نحو قانوني وهو أن يكون المورث مالكاً للمال المورَّث، كأن يورث سفير وظيفة عامة بالسفارة لإبنته الغالية، أما النوع الآخر من التوريث فهو التوريث من خلال مالك آخر، حيث لا يملك المالك الأصلي ما يورثه لأبنائه فيتطوع مالك آخر لإنجاز المهمة في ممتلكات أخرى، كأن يورث وزير معين وظيفة عامة بقطاع العدالة لفلذة كبده.

وقد يختلف اثنان حول الآثار المترتبة على النوعين المذكورين من توريث الوظائف العامة، فمنهم من لا يرى ضرراً بذلك حيث يسهم التوريث بمكافحة البطالة وتوفير فرص عمل لأبناء المسؤولين وأقاربهم باعتبارهم شباب فلسطيني، وأن هذا النهج يحقق الإستقرار السياسي والإقتصادي، على الجانب الآخر هناك من يعتبر التوريث انتهاك للكرامة الإنسانية وحق تقلد الوظائف العامة ومبادى المساواة و العدالة الإجتماعية، وفيه تمييز عنصري وطبقي، كما يعتبرون أن التوريث عنصر هدام للفرد والوطن والتنمية المستدامة من خلال تحييد الكفاءات والاستثمار في موارد بشرية ليست مؤهلة لتقلد مثل هذه الوظائف، أنصار هذا الرأي يطالبون بفتح هذه الوظائف للفئات الشعبية الأخرى ذات الكفاءة العالية والتي تنتظر دورها بشغف للمشاركة في بناء الفرد و الوطن وتتطلع أيضاً لمصادر رزق تعتاش منها، أو أن تكون هذه الوظائف متاحة للمنافسة على نحو نزيه وشفاف وذلك أضعف الإيمان، لكي لا يرث فلان وظيفة ربما كانت من نصيب علان في ظروف سياسية أخرى ومجتمع ديمقراطي مغاير.

بكل الأحوال فإن توريث الوظائف العامة يعتبر انتهاك لجملة من الحقوق الإنسانية ويتوجب مراجعة هذا النهج من أجل اتاحة الفرص لشباب ذوي علم وكفاءة خانتهم صلة القرابة، لكننا نرى أن هناك خطر أكبر يتهدد مشروعنا الوطني التحرري في مواجهة الإحتلال وهو توريث المهام القيادية، فهل تورَّث القيادة؟

لكي نجيب على هذا السؤال الكبير، علينا أن نسأل أنفسنا سؤال آخر، هل يجوز تملك القيادة لكي تكون قابلة للتوريث؟ بالطبع لا يمكن لعاقل القول بجواز تملك القيادة أو توريثها، وبالتالي لا يوجد شيء اسمه قائد وريث أو موروث قيادي، فالقيادة علم مقترن بمهارة، وهي موهبة و كاريزما وبعد نظر في فهم الواقع وتحليله والتبصر بالمستقبل، هي ارادة ومسؤولية، و هي انتماء وقناعات ودافعية للابداع والابتكار والتغيير، والقيادة ليست علم ثابت، أو تجربة معينة، أو مناهج سياسية متواترة كما يعتقد البعض لدرجة جعلها دساتير مقدسة واجبة الإحترام في كل مكان وزمان، هي مهارة قد لا يرثها الأبناء عن الآباء و قد يتفوق بها الصغار على الكبار والفقراء على الأغنياء، والمغمورين على المشهورين.

لذلك فإن القيادة مرتبطة فقط بالقدرات البشرية والمهارات الكافية للتعامل مع الأفراد أو الجماهير، فللقائد قدرات نوعية تفوق قدرات غيره من الناس العاديين، ولهذا فان القائد شخص غير عادي، ليس بحسبه ونسبه ونفوذه و حجم ثروته، وعلاقاته، وتاريخ آبائه وأجداده، بل بمخزون الوعي والتجارب الواقعية وتقدير المواقف في البيئة الإيجابية والسلبية واتخاذ القرارات السليمة، والغريب أن هناك من يصر على توريث المهام القيادية للورثة وكأنها ملك مطوب باسمه، وأن لأبناءه وبناته حق قانوني وشرعي بهذه المهام القيادية من بعده أو كأنها تركة يجب أن تقسم على الورثة فقط حتى ولو لم ينتقل المورث لجوار ربه.

والقادة لا يهبطون من القمة، بل يصعدون من القاعدة، طبعاً هذه القاعدة غير موجودة في الواقع الذي نعيش، وكأن لأبناء المسؤولين والرأسماليين وأصدقائهم وشركائهم ورواد النوادي القيادية جامعة خاصة أو كلية خاصة تقع في الطابق العلوي من الوطن متخصصة في مجال تعليم القيادة، فلا يجوز التحاق الشباب الطموح بها خاصة اذا لم ترد أسمائهم في شجرة العائلات المقدسة، ولا يستطيع الفقراء و العوام دفع رسومها، ولا أحد يعلم ما هو شكل إدارتها، ومتطلبات منح شهادات القيادة للخرجين منها.

والقيادة ليست امتياز بل تميز بالصفات والقدرات تسخر للمصلحة العامة، وفي فلسطين هناك صفات خاصة للقيادة نشات من رحم المعاناة وقسوة العيش تحت نير الإحتلال، وهنا أفترض أن ضحايا هذا الإحتلال وما رسبته ويلاته في صفاتهم و شخصياتهم يصلحون لتولي مهام قيادية، لأنهم لامسوا الواقع وعاينوا المشكلة، فمن يعيش الألم يبحث عن علاجه، ومن لا يقبل بالإحتلال والإنقسام والفساد سيبحث عن زواله، ومن يريد البناء عليه أن يعي جسامة الهدم، ومن يريد التحدث باسم الشعب المقهور عليه أن ينسج كلامه من وحي معاناتهم ويوجه فعله عبر بوصلتهم، طبعاً هذا لا يعني أن كل مكتوي بنار الإحتلال يمتلك صفات القيادة أو يصلح لها، فليس كل من يتجرع مرارة المهانة على الحواجز العسكرية هو مشروع قائد، فهناك قادة يعبرون بلا حواجز!!.

الشعب الفلسطيني بحاجة لقادة وليس فقط موظفين، فالموظف صاحب مهنة، والقائد صاحب مهمة، و هذه المهمة يجب أن تكون مفتوحة للجميع، وبدرجة ثانية مفتوحة لمن يستحقها، بشرط توفرالصفات القيادية المطلوبة، وأن تكون القيادة مرتبطة بتحقق المهمة، لذلك هي فرصة زمنية محددة لمحاولة تحقيق المهمة، تحت ادارة ورقابة الشعب بأكمله وليس رب العمل كما هو الحال بالوظيفة العامة، فإن فشل القائد بتحقيق المهمة تنحى و كان له شرف المحاولة، ثم يأخذ الشعب المتطلع للحرية زمام أمره في البحث عن قائد آخر أوعن محاولة أخرى، والأمر غير مرتبط بمهمة التحرير فقط بل بمهمة البناء والنماء أيضاً.

فلسطين لا تصدر القمح للعالم، لكنها تصدر قادة، وهناك نماذج قيادية كثيرة سجلت نجاحات باهرة على المستوى الإقليمي و العالمي لكنها لا تزال تبحث عن فرص على المستوى الداخلي، فحبذا لو أخذت هذه الكفاءات فرصتها لإحداث التغيير في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي أو على الأقل محاولة تحقيق ذلك بدلاً من استنساخ قيادات جديدة برؤى واستراتيجيات مستخدمة.

بالنهاية نحن لا نريد لفرخ البط أن يعوم فقط، بل نريده أن يقطع بنا النهر ويوصلنا لبر الأمان.