الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

تطور الهوية الوطنية الفلسطينية بين المقاومة والمساومة

نشر بتاريخ: 28/09/2017 ( آخر تحديث: 28/09/2017 الساعة: 16:35 )

الكاتب: د. وليد القططي

"لا يوجد شعب اسمه الشعب الفلسطيني" هذه العبارة كانت ترددها جولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني في السابق، وهي تنسجم مع المقولة الصهيونية المزعومة "فلسطين وطن بلا شعب واليهود شعب بلا وطن" وهاتين المقولتين لم يكن المقصود منهما نفي وجود جماعة بشرية في فلسطين بالمعنى المادي بقدر ما هو نفي لوجود الشعب الفلسطيني كوجود معنوي أي شعب له هوية وطنية مميزة يستحق دولة وطنية خاصة به، وهذا التحدي الصهيوني للهوية الوطنية الفلسطينية ليس هو التحدي الوحيد، فقد برزت تحديات أخرى داخلية لها علاقة بنهجي المقاومة والمساومة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية.
قبل الفتح العربي الإسلامي لفلسطين شكّل الكنعانيون العرب والبليستيون القادمون من البحر المتوسط شعباً واحداً بعد أن اندمجا معاً، انضم إليهم القبائل العربية التي هاجرت إلى فلسطين قبل الفتح العربي الإسلامي كالغساسنة وغيرهم، ولم يكن لهم هوية وطنية مميزة منفصلة عن محيطهم السوري والعربي. وحتى بعد الفتح العربي الإسلامي لم تتبلور هوية وطنية مميزة خارج أُطر الهويات الشامية والعربية والإسلامية، بل كانت النزعات الوطنية (الشعوبية) مرفوضة في ظل النظام السياسي الإسلامي (الخلافة) القائم على رابطة العقيدة ووحدة الأمة الإسلامية والولاء للدولة والخليفة، كما أن التوّجه العالمي للدولة لا يقوم على أساس الوطنية أو القومية، وبالتالي كان من الطبيعي أن يشعر العرب في فلسطين بانتمائهم للأمة الإسلامية للانسجام مع المرحلة التاريخية آنذاك.
وظل الأمر كذلك حتى ضعفت آخر أنظمة الخلافة الإسلامية وهي الخلافة التركية العثمانية وظهور القومية التركية وسياسة التتريك ضد العرب، فبرزت القومية العربية لمقاومة سياسة التتريك وكرد فعل للقومية التركية، ثم تبلوّرت من خلال الصراع ضد الاستعمار الأوروبي الأجنبي، وفي إطار هذا السياق برزت الوطنية الفلسطينية في إطارها القومي من خلال الصراع مع الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني. وهما النقيض للشعب الفلسطيني كوجود وهوية فالمشروع الصهيوني ليس مجرد احتلال عسكري للأرض بل هو مشروع احتلال عسكري استيطاني إحلالي يُريد أن يقتلع شعب ليحل محله شعب آخر، ومن هنا الشعور بكونه النقيض التام للشعب الفلسطيني وهويته الوطنية، ومن خلال الوعي بالذات الجمعية الفلسطينية والوعي بالآخر النقيض الصهيوني تعزز لدى الشعب الفلسطيني الإحساس بهويته الوطنية وضرورة الحفاظ عليها للحفاظ على وجوده فوق أرضه، والحفاظ عليها يتطلب المقاومة ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني.
المقاومة في مرحلة التحرر الوطني والكفاح ضد الاستعمار هي البُعد الأبرز للهوية الوطنية والعامل الأقوى للحفاظ عليها، والإطار الجامع والناظم لها، وهي التي تمنح الشرعية الوطنية أو تنزعها، فالوطني المنتمي للجماعة الوطنية هو الذي يقاوم الاحتلال، والخائن الخارج عن الجماعة الوطنية هو الذي يتعاون مع الاحتلال، وبينهما درجات مختلفة تُصنّف حسب القرب أو البعد عن المقاومة. وحتى شرعية أي عمل ديني أو أدبي أو فني أو ثقافي في مرحلة التحرر الوطني يرتبط بالمقاومة فيتم تقييمه حسب قربه أو بعده من المقاومة. فلقد شكلت المقاومة الفلسطينية قبل النكبة أهم عوامل بروز الهوية الوطنية سواء عبر الأُطر السياسية التي شكلها الفلسطينيون أو عبر الانتفاضات والثورات الشعبية التي فجروها، إلا أنها قد تلقت ضربة قاصمة بعد النكبة التي أدت إلى تشظي الهوية الوطنية الفلسطينية وبروز هويات وطنية فرعية في فلسطين المحتلة عام 1948 وفي الضفة وفي القطاع وفي الخارج في مخيمات اللاجئين والشتات.
فشلت كل الأُطر السياسية التي شُكلت بعد النكبة في تمثيل الشعب الفلسطيني وإبراز قضيتهم وهويتهم الوطنية حتى تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 التي تُعتبر التعبير الأقوى عن الهوية الوطنية الفلسطينية، فأصبح من خلالها للشعب الفلسطيني كياناً يمثلهم ورموزاً وطنية تعبر عن هويتهم ومؤسسات وطنية توّحدهم كالعلم والنشيد والميثاق والمجلس الوطني... وكان لدخول حركة فتح للمنظمة وقيادتها لها دور في مزيدٍ من الانزياح نحو البُعد الوطني على حساب البُعد القومي، إضافة إلى إبراز القضية الفلسطينية في بُعدها الوطني وليس فقط الإنساني في المحافل الدولية، ولا ننسى أن كل ذلك بفضل الشرعية الثورية التي انتزعتها المنظمة بفضل فعلها المقاوم.
وإذا كانت المقاومة هي الإطار الجامع والناظم للهوية الوطنية الفلسطينية فإن نهج المساومة قام بدور سلبي في هذا المجال، وهذا واضح لما آلت إليه الأمور بعد اتفاقية أوسلو التي أنشأت سلطة وطنية ليست على أرض محررة كما أراد البرنامج المرحلي للمنظمة، بل سلطة تحت الاحتلال وغطاء له فكرّست الاحتلال والاستيطان، وكرّست معهما ضعف وتشظي الهوية الوطنية الفلسطينية، وكانت سبباً مهماً في إحداث الانقسام فكاد أن يصبح للشعب الفلسطيني هويتين وطنيتين – الضفة وغزة – إضافة إلى هويات الداخل والخارج، فكان نهج المساومة واتفاقية وسلطة أوسلو والانقسام من عوامل ضعف وشرذمة الهوية الوطنية الفلسطينية مقابل المقاومة ضد المحتل التي وحدّت وأبرزت الهوية الوطنية الفلسطينية ولا زالت قادرة على ذلك.
وللحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية في ظل فقدان عنصر الإقليم الجغرافي المشترك وغياب فاعلية المؤسسة السياسية الموّحدة، وعدم تمثيلها للكل الفلسطيني، لا بد من التمسك بالقضية الوطنية المشتركة ممثلة في التحرير والعودة والاستقلال، وهذا يحتاج إلى إعادة الروح للمشروع الوطني الفلسطيني الجامع، وهذا لا يتم إلاّ بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أُسس تؤكد التمسك بالثوابت الوطنية ونهج المقاومة الشاملة كإطار سياسي جامع للكل الفلسطيني ورافعة للمشروع الوطني الفلسطيني.