الأحد: 28/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

استراتيجية "حرب" اتفاق أوسلو وما بعده

نشر بتاريخ: 14/10/2017 ( آخر تحديث: 14/10/2017 الساعة: 11:27 )

الكاتب: عوني المشني

نصف الكأس الفارغ ان اتفاق أوسلو قد أعطى الفرصة لإسرائيل لتعميق وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية ، ولم يجلب للفلسطينيين دولة مستقلة، نصف الكأس الممتلئ ان اتفاق أوسلو قد أتاح الفرصة لإعادة نصف مليون فلسطيني الى الوطن اضافة الى انه عزز الكيانية الفلسطينية، وللمواطن بعد ذلك ان يضع هذا الاتفاق في الموقع الذي يراه ، تعميق الاستيطان بما له من أهمية كون الارض هي جوهر الصراع يقابل ذلك تكثيف الوجود الفلسطيني في الوطن كون الديمغرافيا هي احد اهم - بل هي الاهم - أدوات الصراع اضافة لذلك أوسلو لم يجلب للفلسطينيين دولة لكنه عزز التعاطي الدولي مع فلسطين كدولة مستقلة ، من يعتبر ان أوسلو حقق ايجابيات فانه يقول ذلك وهو يختنق بسلبياته ومن يعتبر ان أوسلو خيبة امل فانه كان يحمل أوسلو امالا تصل الى حد الوهم ولذلك خابت اماله .
في أوسلو قبض ياسر عرفات الثمن مبكرا فادخل عبر السنوات الخمس الاولى من الاتفاق العدد الأكبر من الفلسطينيين الى الوطن، وأثناء تلك الفترة وبعدها على وجه الخصوص عززت اسرائيل الاستيطان والتهويد. لهذا يمكن القول ان اوسلوا كانت حربا ناعمة ولكنها استراتيجية وبطرق اخرى ، حربا بكل ما في الكلمة من معنى لها أدواتها المختلفة وأهدافها المختلفة وكل طرف كان يعلم جيدا ما يريد ، وكل طرف حقق جيدا بعض مما يريد . لكن هذه الحرب وصلت الى نهايتها ، استطاع الاسرائيليين ابتلاع الضفة الغربية عبر الاستيطان والقضاء المبرم على خيار الدولتين ، وتحول الفلسطينيين في داخل فلسطين التاريخية الى اكثر من نصف السكان ، واختفى او كاد يختفي الخط الأخضر واستبدل بجدار الفصل العنصري الذي يحول أماكن التجمعات الفلسطينية الى معازل عنصرية . استنفذت أوسلو - الحرب الاستراتيجية - أهدافها ، ومثلما اصبح الاستيطان عبئا ثقيلا على الفلسطينيين باتت الديمغرافيا الفلسطينية عبئا ثقيلا على الاسرائيليين .
وصلت الامور الى مرحلة " ستيل ميت " كما هو متعارف عليه في الشطرنج، لا يوجد هزيمة مطلقا لأي طرف واستمرار اللعب عبث أبدي لا يغير الحال، حالة التعادل هذه سائدة بامتياز، الم الفلسطينيين الآني من الاستيطان يقابله الم إسرائيلي استراتيجي مع كل مولود فلسطيني جديد . مرت في تلك الحرب الناعمة لحظات كادت ان تحسم فيها النتيجة ولكن الطرفين اضاعوا الفرص ، في كامب ديفيد كان من الممكن ان توضع نهاية لهذه " الحرب " ولكن كلا الطرفين كان لديه الوهم ان بامكانه تحقيق الأكثر ، ربما السبب الحقيقي الذي يكمن خلف فشل كامب ديفيد هو ان تلك المحاولة كانت قبل ان يتيقن الطرفين ان أوسلو قد استنفذت وقتها ولن يستطيع اي طرف حسم تلك " الحرب " لصالحه وان هناك ضرورة لتغيير المعادلة ، الاسرائيليين والفلسطينيين توجها بعد كامب ديفيد مباشرة لطريقة اخرى لحسم الحرب ، الفلسطينيين توجها للانتفاضة ، الاسرائيليين توجها " للحسم الإدراكي " وهو الاسم الاسرائيلي لعملية اجتياح الضفة الغربية ، معركة دموية جدا لحسم حرب أوسلو ، ذهب الاسرائيليين بعيدا في تلك المعركة وتجاوزو حدود المنطق عندما قتلوا الشهيد القائد ياسر عرفات واهمين ان هذا سيساعد على حسم حرب أوسلو ، نسوا او تناسوا ان الخطوط الحمر التي وضعها ياسر عرفات ستبقى تحكم العقل السياسي الفلسطيني حتى بعد موته ، وبالتالي لم يغير قتل ياسر عرفات شيئا بالمفهوم الاستراتيجي ، خرج الطرفان من هذه المحاولة يقطران دما ولكن دونما حسم ، وهكذا عادا بشكل او باخر الى مربع اوسلوا . كل المفاوضات التي تبعت الانتفاضة والاجتياح كانت من باب الدوران في حلقة مفرغة ، وعندما تصبح الحرب عبثية الى هذا الحد فان تغيير الاستراتيجية والأدوات يصبح أمرا حتميا ، فلا احد يريد الاستمرار في حرب لا طائل منها ولا إمكانية للانتصار فيها .

وحتى نظرية نتنياهو القائمة على ادارة الصراع قد أصبحت عبئا ثقيلا ، ففي ظل ادارة الصراع يتم ابتلاع مزيدا من أراضي الضفة الفلسطينية ولكن في ذات الوقت يتم تزايد الفلسطينيين للدرجة التي تجعل الاسرائيليين يتخلّوا فيها عن أراض للهروب من هذا المأزق ، ففي محيط القدس يفكر الاسرائيليين بإخراج عشرات القرى والاحياء الفلسطينية المكتظة من القدس وتسليمها للفلسطينيين ليخفضوا الكثافة العددية الفلسطينية في القدس ويحافظوا على يهوديتها !!!!
نحن الان بالضبط امام تغيير هذه المعادلة، المصالحة الفلسطينية تفصيل صغير ولكنه مهم على هذا الصعيد ، ولهذا جاءت كمقدمة وبتوافق كل الأطراف ، لم تلوى يد احد في إنهاء الانقسام لانه لا احد ضد تغيير المعادلة ، اليوم التالي لإنهاء الانقسام هو اهم من إنهاء الانقسام ذاته، اليوم التالي هو وضع معادلة جديدة غير أوسلو ، معادلة تعيد ترتيب الصراع ، كل طرف في هذه المعادلة يريد التخلص مما يثقل كاهله ، اسرائيل تريد التخلص من عبئ الديمغرافيا مع الاحتفاظ بالأرض ، الفلسطينيين يريدون التخلص من الاستيطان وبناء دولتهم ، تناقض صارخ وإمكانية الحسم فيه معدومة . حلا مؤقتا جديدا يؤسس لمعادلة صراع بشروط جديدة ، تنازل عن مزيد من الارض مقابل التخلص من الكثير من السكان ، ابقاء الاستيطان ولكن تحجيمه مكانيا ، معادلة سيئة للطرفين ، جيدة للطرفين في ذات الوقت، كلا الطرفين يقضمان قطعة الجبنة تدريجيا ،
هذه هي استراتيجية " صفقة العصر " العتيدة !!!!
كلا الطرفين سيتخلص جزئيا من قلقه، ولكن هذا ليس حلا انه تأجيل لتفاقم المشكلة ، للفلسطينيين مساحة أوسع وصلاحيات اكبر ولكن ليس حدود عام ١٩٦٧ ، وليس صلاحيات الدولة مقابل ذلك للاسرائيليين حرية اكبر في الاستيطان ولكن ليس في اي مكان وبمساحة اقل مقابل التخلص من عدد اكبر من الفلسطينيين .
سيدفع الاسرائيليون ثمنا لتحالف ضد ايران ايضا، فهذا التحالف لن يرى النور بدون "حل ما " للصراع الفلسطيني الاسرائيلي ، هذا الحل وان كان مستعصيا ان يكون دائما وعادلا سيكون مؤقتا ومقبولا ولكن على مضض ، قبول الفلسطينيين بهذا نابع من علمهم الاكيد ان هذا الزواج - التحالف - قد تم بالفعل وما ينقصه هو إشهاره ، وثمن الاشهار سيأخذو بعض من قليل ، ولكن ما دام ليس في سياق حل نهائي يعتبر الفلسطينيين ان هذا القليل خطوة على الطريق .

بمعنى او باخر هو أوسلو رقم " ٢ "، سيكون بالنسبة للفلسطينيين سيء الى الحد انه سيتوارى امام كلمات جيدة فارغة من مضمون ، وجيد الى الحد الذي سيمني الشعب الفلسطيني بأحلام واعدة، هذا للفلسطينيين اما بالنسبة لإسرائيل جيد الى الحد الذي سيبقى الاستيطان قائما والفلسطينيين تحت سيطرة ما ، وسيئ الى درجة ان يد اسرائيل ستكف عن بعض من المناطق كانت تشكل مطمع لهم .
هو ليس حلا سياسيا ، هو معادلة جديدة في الصراع ، هو استمرار للصراع ولكن بطريقة ناعمة ، هو محطة انتظار للطرفين لانتظار متغيرات كل يعتقد انها لصالحه .
لكنه تبريد هنا لاشعال حربا هناك ، حربا على نفوذ ايران وأدواتها وامتداداتها . حربا ستغير الظروف حتما ولكن باي أتجاه ، وها هي بوادر تلك الحرب قد بدأت متزامنة مع بوادر صفقة العصر ، محاولة أمريكيا إلغاء الاتفاق النووي والترحيب الاسرائيلي السعودي الإماراتي بهذا الامر هو مقدمات لها معنى ولكن هذا سيبقى في علم الغيب ، لكن المؤكد حتما ان صفقة القرن كما يحلو للإدارة الامريكية وصفها لن تكون حلا ، هي استعداد للحرب بطريقة ما ، ثمن ذلك سيكون على اسرائيل التخلي جزئيا عن شيئ ما للفلسطينيين ، مواجهة قوة كإيران تستدعي التضحية ببعض من النفوذ في الضفة الغربية ، ولكن مقابل ضمان مصري أردني لحدود " الدولة " الفلسطينية العتيدة ، دولة تحت السيطرة لفترة تجربة طويلة .

على الطريق لتحقيق ذلك هناك ألغام عديدة ، ومنعطفات خطيرة وربما انتكاسات مؤكدة . سلاح حماس احد الألغام ، وحتى لو كان في الحسبان فان لحماس حساباتها وطرق اخرى غير الطريق الإجباري المفروض بقوة الجغرافيا السياسية ، جشع الاستيطان لغم اخر واستعداد دعاة الاستيطان لتحطيم الحكومة من اجل ابقاء يدهم مطلقة في نهب الارض الفلسطينية ، هشاشة نظم دول التحالف قد يشكل مفاجئة تطيح بكل الحسابات خاصة ان ايران لن تبقى مكتوفة اليد ولديها استعداد للعمل الناعم لافشال ما يخطط ضدها ، روسيا ودورها الشرق أوسطي سيكون عامل حاسم ايضا ، لروسيا حساباتها ، ليس سوريا وحدها ضمن دائرة النفوذ بل ايران ايضا في دائرة التحالف ، أوروبا ليست في عجلة من امرها للحاق رئيس أمريكي مصاب ب" البرانويا " - جنون العظمة - .

إمكانية انهيار المعبد على رؤوس أصحابه قائمة موضوعيا اللهم الا اصحاب نظرية ان أمريكيا هي " القدر الذي لا مهرب منه " فهؤلاء يعتقدون ان أمريكيا فوق قوانين علم الاجتماع السياسي ، لا بل ان أمريكيا هي القانون الذي يحكم السياسة الدولية وبذلك تلغى الظروف الموضوعية .

نحن امام متغيرات حقيقية، تغيرات في شكل وأدوات الصراع ولكنها حتما لن تنهي الصراع، انها مرحلة جديدة من الصراع لها شروطها وأدواتها ، وسيكون صراعا ناعما احيانا ودمويا احيانا، سنبقى في حرب الأسطورة والغبار والاوهام. سنبقى كذلك حتى شعار اخر ، ولكن سنبقى ، والمرحلة التي ستقود لحل دائم وعادل ما زالت بعيدة ، ولكنها آتيه لا محالة ، ربع قرن اخر ؟؟!!! ربما ، ولكن في ظل التطور الكوني قد يكون اقل ، وأقل كثيرا .