الكاتب:
المحامي محمد هادية/ القدس
خبير في مجال تسوية النزاعات
في عالم يتسم بالتعقيد والتنوع الثقافي، باتت الحساسية الثقافية ضرورة أساسية في جميع جوانب الحياة، من العلاقات الاجتماعية واليومية إلى الإعلام والإعلان والتسويق. ومع تسارع العولمة وانتشار المضمون البصري والرقمي، أصبح لأي خطأ في تقدير خصوصيات المجتمعات ومشاعرها الثقافية والدينية أصداء بعيدة المدى تتجاوز مجرد سُخرية عابرة أو انتقاد مؤقت. ففي المقابل، يمكن للتصرّف الحساس والمسؤول أن يعزز التآلف والترابط الاجتماعي، ويُسهم في بناء سمعة مهنية راسخة.
1. مفهوم الحساسية الثقافية وأبعادها
• التعريف: الحساسية الثقافية هي وعي الفرد أو المؤسسة بالاختلافات الثقافية والدينية والاجتماعية، واحترامها وتجنّب الإساءة لها بالقول أو الفعل.
• الأبعاد: تشمل اللغة والرموز الدينية والمعتقدات، العادات والتقاليد، المُسَمّيات التاريخية، وحتى الإشارات البصرية والألوان التي تحمل دلالات خاصة في ثقافات معينة.
2. لماذا تعتبر الحساسية الثقافية ضرورية؟
1. حماية النسيج الاجتماعي
• تُعزّز الثقة والاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع، وتُجنّب الاحتكاكات التي قد تتطور إلى صراعات أو انقسامات.
2. دعم التعايش والسلم الأهلي
• عندما يراعي الإعلام والإعلان خصوصيات الجميع، يشعر أفراد المجتمع—بصرف النظر عن خلفياتهم—بأنهم جزء لا يتجزأ من الكل الوطني.
3. الالتزام بالقيم الأخلاقية والمهنية
• احترام المشاعر الدينية والثقافية ليس واجبًا اجتماعيًا فحسب، بل معيارٌ أخلاقي ومهني يحدد مدى احترافية المؤسسات والخبراء.
3. التركيز على خبراء التسويق والدعاية والإعلان
أصبح دور خبراء التسويق والإعلان أكثر حساسية وتعقيدًا من أي وقت مضى، إذ يتعاملون مع جماهير متنوّعة في دينها وثقافتها وخلفياتها الاجتماعية. من البديهي أن أي حملة تسويقية ناجحة تسعى لجذب انتباه المستهلك وإثارة إعجابه، ولكن هذا لا يجب أن يتم على حساب احترام مشاعر الناس وهويتهم.
• معرفة السياق الديني والثقافي
• قبل إطلاق أي حملات أو تصميم رسومات أو اختيار رموز مرئية، يجب إجراء دراسة مستفيضة للمفاهيم والرموز الدينية والثقافية ذات الصلة بالمجتمع المستهدف.
• مثال: قبل استخدام أي لوحة فنية أو رمز ديني كشعار أو عنصر غرافيكي، ينبغي استشارة خبراء في التاريخ والفن والدين، أو حتى إجراء مجموعات تركيز تضم أفرادًا من المجتمع ذاته.
• التواصل مع الجهات والأفراد المعنيين
• التعاون مع قيادات المجتمع الديني والمدني والمؤسسات الثقافية يساهم في مراجعة الرسائل قبل نشرها، واكتشاف أية مشكلات محتملة مبكرًا.
• إشراك ممثلين عن الأقليات—المسيحيين في المثال الفلسطيني—يضمن نقل تجاربهم وتفادي إساءة غير مقصودة.
4. مخاطر الإهمال وسلبياته
1. تهديد السلم الأهلي
• تمسُّك بعض الفئات بمقدساتها يجعل أي سخرية أو إساءة—بغض النظر عن الهدف التسويقي—مؤذية وجارحة، وقد تُفجّر نزاعات داخل المجتمع الواحد.
2. انكماش دور الأقليات
• تجارب الإساءة المتكررة تدفع الأقليات إلى الشعور بالتهميش، ما ينعكس سلبًا على مشاركتهم في الحياة الوطنية والاجتماعية والسياسية.
3. الانتكاسات الاقتصادية
• الحملة المسيئة قد تواجه مقاطعة واسعة من المستهلكين، ما يؤدي إلى خسائر مالية كبيرة.
• سلبيات السمعة تنتقل بسرعة عبر مواقع التواصل، وتستمر لعقود في أذهان الجمهور.
4. تراجع ثقة الشركاء
• المستثمرون والعملاء الذين يقدّرون الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية قد ينسحبون، خشية الارتباط بعلامة تجارية يعتقدون أنها لا تحترم قيمًا أساسية.
5. توصيات لضمان حساسية ثقافية فعّالة
1. إدراج مختصين متعددي التخصصات
• فرق تضم خبراء تسويق، ومثقفين، ورجال دين، وأخصائيي علاقات عامة، وعلماء اجتماع.
2. تدريب مستمر ومتجدد
• دورات منتظمة في الثقافة المحلية والتعددية الدينية والإعلام المسؤول للعاملين في الأقسام الإبداعية والتسويقية.
3. آليات مراجعة داخلية وخارجية
• وحدات تدقيق ثقافي قبل نشر أي مادة، بالاعتماد على استبيانات أو مجموعات تركيز حية.
4. خطة لتدارك الأزمات
• فور وقوع أي خطأ، الاعتذار الصادق الفوري، وتوضيح خطوات الإصلاح والتعويض إن لزم.
5. الاحتفاء بالتنوع الحقيقي
• حملات إيجابية تُبرز النماذج المشتركة بين مختلف مكونات المجتمع، وتُعزّز القيم الجامعة مثل التضحية والتضامن والصمود.
خاتمة
في عصر تتداخل فيه الحدود بين الفضاءات الثقافية والدينية، باتت الحساسية الثقافية معيارًا لا غنى عنه لكل من يسعى للتأثير الإيجابي والبقاء في قمة الاحتراف. خاصة خبراء التسويق والإعلان الذين يمتلكون أدوات قوية للتوجيه والإقناع؛ فمسؤوليتهم تمتد إلى حماية النسيج الاجتماعي وتعزيز التعايش والوحدة. إذ يكفي موقف خاطئ واحد لينهار جسر الثقة، ويكون من الصعب جدًا إعادة بنائه. لذلك، على الجميع—شركات وأفرادًا—أن يعوا جيدًا أن احترام الآخر هو أفضل استثمار للعلامة التجارية، وأقوى ضمان لاستمرار التعاطف والوحدة بين أبناء الوطن الواحد.