الأحد: 28/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

العقل السياسي الفلسطيني: مراجعة نقدية

نشر بتاريخ: 31/12/2017 ( آخر تحديث: 31/12/2017 الساعة: 11:58 )

الكاتب: عوني المشني

ربما ان الفيلسوف الألماني امانويل كانط قد مثل انعطافة حادة قادت اوروبا من عصور الظلام الى عصر النهضة عندما دعا الى الانتقال من نقد الأفكار والبرامج والسياسات الى نقد البنية العقلية التي تنتج تلك الأفكار والبرامج، وفِي كتابه الاهم "نقد العقل المجرد" استطاع هذا الفيلسوف الفذ ان يؤسس لعلاقة سببية بين الماضي والحاضر من خلالها يمكن صياغة الرؤية الجديدة التي قادت اوروبا للنهوض ، ربما ان الجابري واركون قد حاولا ان ينتهجا طريق كانط في مؤلفاتهما حول نقد العقل العربي الاسلامي وتلك محاولة وان لم ينجحا في تحقيق اختراق في تغيير المنهجية العربية الاسلامية في التعاطي مع الواقع فيكفيهما شرف المحاولة الجادة.
ليس هذا هو الموضوع ، لكن محاكاة لهذا فان نقد سياسات وبرامج واستراتيجيات الفلسطينيين اتجاه قضيتهم ليس هو الذي سيؤدي الى نتيجة ، وإنما انتقاد " العقل " السياسي الفلسطيني الذي ينتج هذه البرامج والسياسات هو الموضوع ، فمنذ نشأة القضية الفلسطينية واحتدام الصراع والسياسات الفلسطينية فصائل ومؤسسات مجتمع مدني تدور في نفس الفلك ، وتؤدي لذات النتائج ، سياسات اقل ما يقال عنها انها نتاج " عقل " مشوه لا يمتلك اي منهجية بحث ولا يستند الى آلية قياس . ولاننا في مرحلة مفصلية وجب المراجعة ، وجب قراءة تحايلية شمولية .
بدون استعراض تاريخي تحليلي لرصد تجليات العقل السياسي الفلسطيني - حيث يحتاج هذا الى بحث طويل لا يحتمله مقال - سنقفز الى النتائج ، الى مواصفات العقل السياسي الفلسطيني في تعاطيه مع " القضية " او في ادارته للصراع الوطني . بدا واضحا ان العقل السياسي الفلسطيني يتعاطى مع جزئيات الصراع ليهرب من الاستنتاجات الكلية ، ادركت اسرائيل هذه الحقيقة لذلك تنشئ كل يوم ازمة تشغل الفلسطينيين اليها وتبعدهم عن جوهر المسألة الاساسية ، ليس نقيصة ان تنشغل القيادة في التفاصيل والجزئيات ولكن ذلك يتم في ظل استراتيجية شمولية اما أشغالنا في التفاصيل لتهرب وتمرر الأساسيات فهذا يعني أشغالنا في النتائج حتى لا نتعاطى مع الاسباب ، هكذا هي الحال نحن ردة فعل على الحدث ، العقل السياسي الفلسطيني يعيش انفصام حاد بين الممارسة والنظرية ، بين البرنامج والممارسات السياسية ، بين النظري والعملي ، حالة انفصام حادة تعكس نفسها في كل مجالات السياسة الفلسطينية ، هذا الانفصام يعكس نفسه على الأداء والنتيجة سياسة مربكة غير مفهومة وغير مقنعة . العقل السياسي الفلسطينية لا يربط بين الاسباب والنتائج ، لا يربط بين الظواهر واسبابها حالة انفصال دائمة ، لا يعالج الاسباب وإنما يدور في حلقة مفرغة حول النتائج . العقل السياسي الفلسطيني ليس شمولي استراتيجي ، يعالج القضايا بالقطعة ويتناولها مجزأة ، لا يجيد احداث تراكم عبر الجزئيات ، دائم التعثر في الحصاد . العقل السياسي الفلسطيني يهرب من الذاتي الى الموضوعي ، عندما يعجز عن اداء دوره الذاتي يهرب الى الموضوعي ، والموضوعي دوما ليس له مفاعيل بدون الدور الذاتي .
كلام مجرد !!! أليس كذلك ؟؟؟؟ نعم هو كذلك ، ربما يحتاج الى إثبات ، لن ندخل في ذلك ، ليكن تناول امثلة ولو قليلة عسى ان يوضح ، مثلا امريكيا ، استندت نظرية التعاطي مع امريكيا كطرف وسيط على قناعة بان امريكيا الطرف الوحيد القادر على الضغط على اسرائيل لإجبارها على تسوية تؤدي لدولة فلسطينية ، عشرون سنة تقريبا ونحن نسعى لعلاقة مع امريكيا ، دفعنا ثمنا للوصول الى هذه العلاقة ليس أقله هو الاعتراف بإسرائيل ، وعشرون سنة ونحن نفاوض امريكيا واسرائيل ، لنكتشف بعد أربعون عاما ان امريكيا ليست وسيطا نزيها !!!!! بعقل منهجي كان مفهوما لدى القاصي والداني ان امريكيا هي الحليف الاستراتيجي لاسرائيل ، وأنها لن تضغط على اسرائيل الا اذا اصبح لامريكيا مصلحة في الضغط ، هذا الف باء السياسة ، امريكيا لا يوجد ما يجعلها تضغط على اسرائيل ، ربما لو أمضينا سنوات نقنع العرب بتوظيف عوامل ضغط على امريكيا لكان هو الطريق الأصوب . لكن بعد عشرات السنوات من المراهنة على الضغط الامريكي على اسرائيل نأتي لنقول ان امريكيا لم تعد وسيطا نزيها !!!!
مثال اخر ذهبنا الى اوسلوا في مفاوضات سرية بعيدا عن اي حاضنة عربية او اسلامية ، وصلنا لاتفاق ، أكملنا المفاوضات ثنائيا بعيدا عن العرب والمسلمين ، والان نقول العرب تخلوا عنا !!!!! هل نريد العرب والمسلمين شركاء ؟!!!! لماذا لا نصل لاستراتيجية منذ البداية تضع العرب والمسلمين كشركاء ونحملهم مسئولية بعد ذلك ؟؟؟ سيسأل البعض هل هذا ممكن ؟؟؟ نعم باستراتيجية واضحة هذا ممكن ، وممكن اكثر من ذلك .
مثال ثالث ما هو الهدف الاستراتيجي الفلسطيني ؟؟؟ هل الدولة هي الهدف ام تحرير الوطن ؟؟؟ لا يقول لي احد لا يوجد فرق ، نعم يوجد فرق ، وفرق كبير جدا ، عندما يكون التحرير هدف فكل ما عدا ذلك يوظف لخدمة هذا الهدف ، ولكن عندما تكون الدولة هدف تستخدم كل إمكانياتنا بما فيها المقايضة في الوطن من اجل إقامة الدولة ، ربع قرن وهدفنا إقامة الدولة ، تضاعف عدد المستوطنين عشر مرات ، تهودت القدس ، استشهد اكثر من عشرين الف فلسطيني ، جرح اكثر من مئة الف اعتقل اكثر من ربع مليون ، كل هذا على مذبح الدولة ، والدولة لم تكن يوما تعني تحرير الوطن ، كانت تعني التضحية باكثر من ثلاثة ارباع الوطن من اجل دولة على اقل من ربعه ، والان وصلنا الى استنتاج ان دولة من خلال المنهج الذي استخدم طيلة ربع قرن لم تعد ممكنة !!! صحيح ان العالم باجمعه يعترف بدولة فلسطينية ولكن ذلك لا يكفي لأحداث تغيير نوعي على ارض الواقع يجعل الدولة حقيقة موضوعية .
هل نحتاج الى أمثلة اخرى ؟؟!!! نعم
مسألة الإنجازات والانتصارات ، لا اعرف على وجه اليقين اي معايير او وسائل قياس يستخدم السياسيين الفلسطينيين او المطبلين من الاعلاميين عندما يقولوا انتصرنا او أنجزنا !!!!! وكم انتصار نحتاج حتى نصل الى وضع لا نجد شيئ ننتصر لاجله !!! انتصرنا في الامم المتحدة وفِي اليونسكو وفِي مجلس الامن وفِي محكمة الجنايات وفِي القمة العربية وفِي القمة الاسلامية وفِي .... وفِي ..... وفِي...... لدرجة اننا لم نهزم اطلاقا في معركة !!!!!! ، وبعد كل هذه الانتصارات وصلنا الى هذا الطريق المسدود !!!! وصلنا الى تبخر فكرة " الدولتين " !!!! وصلنا الى دولة خاضعة للاحتلال تجعل الاحتلال دون اي كلفة او على اقل تقدير باقل كلفة ممكنة .
العقل السياسي الفلسطيني ، التجريبي ، ذو البعد الواحد ، الانتقائي ، الفرداني ، الإقصائي ، الذاتي ، ضيق الأفق ، لا ينتج ، لا يصنع الحدث ، لا يراكم ، لا يستخدم منهجية علمية ، لا يتعاطى مع الاسباب بل يقفز للتعاطي مع النتائج ، لا يقبل المشاركة ، يستأثر . وبعد كل ذلك فاسد .
التغيير يبدأ هنا ، كيف يبدأ ؟؟؟
دائما مشكلتنا في هذه !!!!
اولا استراتيجية واضحة تقوم على فهم دقيق لابعاد الصراع وأساسه ، الصراع يهدف للتحرر الوطني ، الدولة ليست الهدف وان كانت نتيجة للتحرر ، لانه ببساطة لدينا الان " دولة " بدون تحرر ، دولة كان الهدف ان تصل الى دولة محررة بعد خمس سنوات وها هو يمر ربع قرن وأصبح التحرر كدولة أمرا اكثر بعدا من قبل ربع قرن !!!!
ثانيا تحديد واضح للأدوات ، لا يكفي ان تحدد ما تريد وإنما يفترض ان تكون على معرفة دقيقية وواضحة لتحديد أدوات تحقيق الهدف نبدأ باستخدام أدوات محددة وعندما تفرض الظروف تغيير الأدوات نكسر القديمة ونبدأ بادوات جديدة وهكذا حتى وصلنا الى وضع اننا كسرنا كل أدواتنا بايدينا !!! الإبقاء على كل الأدوات واستخدام المناسب منها دون اغفال حقيقة ان ما لا نستخدمه الان قد نحتاجه في وقت اخر ، والاهم تطوير الأدوات ، كل الأدوات المستخدمة او التي قد تستخدم في يوم ما .
ثالثا اختيار للطواقم التي تستطيع ان تسير بهذا الاتجاه ، بصراحة الفاسدون لا يحررون وطن ، المتخاذلون لا يقودون ثورة ، أدوات الأنظمة المختلفة بما فيها امريكيا واسرائيل ليسوا أمناء على قضية وطنية وقادة لها ، الهدف النبيل يحتاج الى أدوات من نفس الطينة ، وهؤلاء هم ملح الارض وبارودها ، وهؤلاء هم المهمشون وخطب المراحل المختلفة وخطب السياسات التجريبية ، وهؤلاء هم من جربو واجتازوا امتحان السقوط في وحل الفساد وفِي سياسات الأنظمة ، وهؤلاء من لم تضيع بوصلتهم ابدا وبقيت فلسطين هي الاتجاه والقبلة والمعبد بالنسبة لهم ، وهؤلاء اكثر واكثر وعيا واكثر حرصا واكثر مسئولية .
رابعا تحديد واضح للاعداء والاصدقاء والذين يقفون في المنتصف ، المقصود تحديد استراتيجي دون العبث في هذا المجال ، سياسة تعزز الحلفاء وتقلل الأعداء دون فقدان البوصلة الاستراتيجية ، هذا مهم لان هناك فقدان حقيقي للبوصلة في السنوات الاخيرة جعلتنا نتوهم في إمكانية تحويل أعداء استراتيجيين الى اصدقاء وجعلتنا نقاطع اصدقاء حقيقيين ارضاء لسياسات عليا او خوفا من سياسات عليا او طمعا في إنجازات وهمية ثبت بالتجربة انها خدعة !!!!!
يكفي ، استراتيجية وأدوات عمل وقيادة وحلفاء ، اذا ما تفتقت عقلية سياسية فلسطينية تستخدم المنهج العلمي عن نجاح في هذا فبالتأكيد سنغادر مربع الارباك والتوهان الذي نعيش . هل يحتاج الى عقل سياسي مختلف ، عقل سياسي غير مشوه ، عقل سياسي يستخدم منهجا ، عقل سياسي فلسطيني " الوجه واليد واللسان " .