الخميس: 02/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

التابو المحرم في الفكر السياسي الفلسطيني

نشر بتاريخ: 07/07/2018 ( آخر تحديث: 07/07/2018 الساعة: 12:06 )

الكاتب: عوني المشني

التابو وفق تعريف ويكيبديا "الموسوعة الحرة" هو كلمة بولينيزية تطلق على (المحظور في نظر المجتمع)، أي ما تعتبره أعراف المجتمع (أو السياسة أو جهة أخرى) من المحرمات (وليس حتما وفق الشريعة التي يدين بها ذاك المجتمع) وإن كانت في بعض الأحيان تقرن لدى البعض بمفهوم "الحلال" و"الحرام". فالتابو أي خط أحمر لا يقبل المجتمع تجاوزه بغض النظر عن مدى كون (التابو) مبررا أو حتى متناسقا مع القوانين والشرائع . وقي الفكر السياسي الفلسطيني عبر العقود الماضية نشأت مجموعة من ال " تابو " اي المحرمات وتحولت لاسباب مختلفة الى خطوط يمنع الاقتراب منها ليس من حيث تجاوزها بل من ومن حيث نقاشها او التساؤل في ضرورتها ، والاسباب التي اوصلت المجتمع الفلسطيني لوضع هذه القضايا في موقع القداسة الغير قابلة للنقاش كثيرة ، في بداية الامر كان لتضخيم تلك القضايا ووضع
هالة مقدسة حولها اهداف نبيلة ووطنية ، فمثلا فان شعار منظمة التحرير الفلسطينية ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده جاء في ظل محاولات مستميتة للتآمر على الشعب الفلسطيني وإنهاؤه ككينونة سياسية وطنية ، لهذا فان التمسك بهذا الشعار حتى التقديس جاء من منطلق وطني ملتزم ، وتحول بفعل النضال الطويل لإعادة الشعب الفلسطيني الى الخارطة السياسية الى تابو مقدس يمنع المساس به او حتى نقاشه ، هذا في مرحلة ما ، لكن فيما تبع تلك المرحلة تشكلت طبقة سياسية ونخب ثقافية مساندة لها تستفيد من تلك الحالة فضخمت التابو اكثر وجعلته بمرتبة القداسة العليا التي تتقدم على الأهداف من وجوده ، بمعنى ان وجود منظمة التحرير اصبح اهم من التحرير ذاته واكتسب قداسة اكثر من التحرير ، حتى عندما اصبحت المنظمة في لحظة ما تثير اشكاليات في كونها كيان جامع للشعب الفلسطيني في مسيرة التحرر فان القداسة بقيت وتعززت ، هنا اصبح المساس او النقاش او مجرد التفكير بوضع المنظمة تابو محرم ، الاغرب من هذا ان وضع هالة القداسة حول المنظمة كان بهدف منع النزول لما هو أدنى من وحدة الشعب الفلسطيني لما هو اقل من وحدة وطنية بهدف التحرير ، بمعنى او باخر لمنع التنازل لما هو أدنى ، مع مرور الوقت اصبح التابو المحرم هو ان التابو المحرم اصبح لما هو اعلى من سقف منظمة التحرير ، بمعنى ان الارتقاء لما هو اعلى من سقف منظمة التحرير اصبح محرما !!!!! هذا يثير الف علامة سؤال عن مبررات استمرار التابو والاهداف الكامنة خلفه ، مسالة اخرى في غاية الأهمية وهي ان التابو كان في بدايته سياسيا ويفرض من خارج الذات ، من القوى السياسية او الشعبية وبفعل استمرار الوضع لفترة طويلة تحول التابو الى الذات والوعي ، بمعنى ان الفرد ذاته اصبح بوعيه الباطن يمنع نفسه من التفكير بهذا الامر ونقاشه !!!!!!
منظمة التحرير ليس هي التابو الوحيد في الفكر السياسي الفلسطيني ، صنمية التفكير أنتجت تابو اخر اسمه الثوابت الوطنية الفلسطينية ، والتي تمثلت في العقود الاخيرة ب " دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف وفق حدود الرابع من حزيران عام ١٩٦٧ " وطبعا يلحق من باب ذَر الرماد في العيون بهذا الشعار " حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفق قرار ١٩٤ والمبادرة العربية وبما يتفق عليه !!!!!.
جاء هذا الثابت الوطني بعد دورة المجلس الوطني الفلسطيني الذي اقرت النقاط العشر عام ١٩٧٤ ، وكان إقراره اشكالية وطنية وسياسية كونه حمل بشكل او باخر تنازل استراتيجي عندالثابت الاساس وهو تحرير كامل تراب فلسطين كما اعتبرته جبهة الرفض حينها وتكتيكي كما اعتبرته فتح والجبهة الديمقراطية ، بدأ الثابت يكتسب صفة القدسية في ظل محاولات اسرائيل تشكيل ما يسمى روابط القرى الفلسطينية لفرض حكم اداري ذاتي على الفلسطينيين ، كان هذا في نهاية السبعينيات من القرن الماضي ، بل اصبح هذا الثابت اهم شعارات محاربة الحكم الاداري الذاتي وروابط القرى ، مع الزمن وفِي اطار هذه المعركة اصبحت " الثوابت " هذه تابو مقدس يرجم بالخيانة من يقترب ليتجاوزها ، وحتى بعد إتفاقات اوسلو التي أنتجت سلطة حكم اداري ذاتي تم ترسيخ هذا التابو ومحاولات خلق تماهي خادع بينه وبين سلطة الحكم الاداري الذاتي ، لهذا وفِي هذا السياق يفه ان تدخل تعبيرات الدولة على كل مضامين الحكم الحكم الاداري الذاتي ، مجلس الحكم الاداري الذاتي اصبح بالاسم لدينا مجلس تشريعي ، رئيس سلطة الحكم الاداري اصبح رئيس دولة فلسطيني ، أمن سلطة الحكم الاداري الذاتي أمن وطني ..... الخ ، هذه الإسقاطات اللفظية جاءت هروبا من تجاوز التابو اولا ، وإعطاء صفة التابو بما فيه من قداسة وقوة للسلطة نفسها ، عملية تبادلية بين نقيضين خلقت بينهما تماثل ظاهري رغم التناقض الجوهري ، هذا يقود مع الوقت لتصبح السلطة لوضعها القائم تابو له هالة مقدسة ويمنع نقاشه او مجرد التفكير في اهمية وضرورة استمراره وما اذا كان استمرار وجودها عامل مساعد او محبط للتحرير ، ما يساعد على ذلك ان السلطة تستمد تلك الحالة من ذلك التماهي الشكلي الذي تم تشكيله قسرا بينها وبين ثابت الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ، والاهم ان هناك مصلحة حقيقية واضحة للنخب القائمة على السلطة لتحويل الامر الى تابو يمنع الاقتراب منه !!!!
وبجانب خلق وتعزير تابوهات جديدة تم تجاوز تابوهات قديمة ، اهم ما تم تجاوزه بالتدريج هو فكرة الوطن لصالح فكرة الدولة ، عندما اصبحت السلطة الفلسطينية دولة !!!! لم يعد الوطن هو الثابت الاساس بل تحولت الدولة الى هذا الثابت وتقلصت فلسطين لتصبح بحجم الدولة ، ان نزع صفة القداسة على شمولية فكرة الوطن سارت جنبا الى جنب مع فكرة تقليص فكرة المواطنة على حدود الدولة !!!! فإذا كانت السلطة هي الدولة فسكان السلطة هم المواطنين ، وزارة فلسطينية ، مجلس تشريعي فلسطيني ، والرئيس المنتخب من اقل من ثلث الفلسطينيين هو الرئيس الفلسطيني ، والاهم تقليص وجود الشتات والتجمعات الفلسطينية في الشتات امتد ليشمل دوائر منظمة التحرير ، هذاالمتغير في وضعية الوطن والدولة والمواطنة يعكس نفسه سياسيا وربما ثقافيا على الحالة الفلسطينية ، وحتى على البنى السياسية والحزبية ، ان اعادة تشكيل اللجنة التنفيذية الجديدة لمنظمة التحرير يأتي في هذا السياق حيث تخلوا من اي شخصية من تجمعات الشتات !!!!!
اذن نحن امام متغيرات ليس على الواقع السياسي والتنظيمي في فلسطين بل تغيير في البنى الفوقية والتي يشكل الوعي أساسا لها ، وهذا التغير يخضع لمنطق التابو المحرم ويسير بنسق يعاكس تماما الهدف الذي تشكلت تلك التابوهات لخدمته ، فإذا كانت بداية إعطاء هالة مقدسة لتلك المفاهيم بهدف منع التنازل لما هو أدنى منها فان تكريس واقع التابو عليها فيما بعد اصبح يهدف لمنع الارتقاء لما هو اعلى منها ، انها مفارقة مهمة تعكس اهمية تحويل التنازل بحد ذاته الى قيمة تستمد قيمتها من قيمة التابو ذاته .
وبعد ؟؟؟؟
التحرر الفكري من صناديق التفكير المغلقة على مفاهيمزصنمية هو المدخل ، هذا لا يعني عدم وجود ضوابط للفكر الوطني ، لكن الضوابط تتحدد بالقيم الاساسية الاولى والعليا ، القيم تلك التي تنحصر تحديدا وفقط بالوطن ، الشعب . فلسطين بحدودها التاريخية هي الوطن والشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده هو الشعب . ما دون ذلك لا يوجد ما هو مقدس وما هو خارج اطار النقاش ، البنى السياسية ، البرامج ، الأفكار ، كل هذا لا يمتلك صفة القداسة وخاضع للنقاش ولا أوصياء على العقل الفلسطيني ، في ظل الإيمان والالتزام الثابت والقاطع بالوطن ووحدانية الشعب فان ما دونه اجتهاد قابل للنقاش نفيا او تعديلا او تكريسا .
ان فوبيا فتح الصناديق المقفلة هي العقبة الاولى التي تواجه هذا الانفتاح الفكري ، وبما هناك مبررات لتلك الفوبيا ، ليس أقلها التخوف المشروع من كوّن فتح تلك الصناديق سيثير من الأسئلة المختلف جدا في إجابتها ما يجعل اغلاقها اقل ضررا ، فتح مسائل مثل منظمة التحرير ، حل الدولتين ، وما شابه سيضعنا امام أسئلة يختلف المجتمع الفلسطيني في الإجابة عليها ، لهذا نجد ان الصمت عنها اقل مجازفة من فتحها لهذا تتعزز الفوبيا . كذلك فان منطق التخوين والتكفير والتجديف يشرع في وجه من يقترب من تلك الصناديق وكأن اللعنة الفرعونية ستلاحق كل من يحاول فك طلاسمها .
لكن هذا هو وجه واحد للحقيقة ، فالوجه الثاني ان الإبقاء على هذا الوضع يشكل عامل مثبطا ومعطلا للتطور السياسي والنضالي الفلسطيني ، واكثر من هذا يشكل سلاحا في يد النخب المستفيدة من بقاء هذا الوضع ، وبدون طرح الأسئلة " المحرمة " ومواجهتها بجرأة ومسئولية فان حالة انعدام الوزن الفلسطيني ستستمر وحالة تحقيق الخلاص الفردي ستتواصل وحالك الاستفادة من رداءة المناخ السياسي من قبل بعض النخب تتواصل .