الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الوطن العربي والتجزئة الجديدة

نشر بتاريخ: 29/07/2018 ( آخر تحديث: 29/07/2018 الساعة: 10:04 )

الكاتب: يوسف المحمود

ان الخطر الاستعماري الذي يهدد الوطن العربي الْيَوْمَ مختلف تماماً عن أخطار الماضي، رغم انه يشكل امتداداً لها . فقد تطور وتجاوز كونه خطراً يهدد تحقيق الوحدة العربية والمشروع القومي العربي والإبقاء على الصيغة القديمة لتفتيت وتجزئة الوطن العربي وهي وجود الدول التي تكونت بعد الاحتلال البريطاني الفرنسي الايطالي الإسباني البرتغالي ، بل تخطى ذلك الى تدمير الدولة القطرية والعمل على تطبيق الرؤى الاستعمارية الجديدة في انشاء (دولة السوبرماركت) على حطام دولة مابعد الاستقلال ، أو استبدالها بانشاء مناطق وكيانات غير معرفة تشبه الحكم الذاتي لها طابع اثني وطائفي ومذهبي .
إن هذا الخطر المتمثل بمزيد من التفتيت والتمزيق هو الذي يعمل التوحش الاستعماري الجديد بكل قواه لأجل تحقيقه والإبقاء عليه من اجل ضمان استمرارية وبقاء المشروع الاستعماري الجديد الذي نبت على جذع الاستعمار القديم وورث عنه كافة أدواته .
وفِي هذا الإطار فانه من المعروف جيداً ان خطط تفتيت الوطن العربي هي خطط استعمارية قديمة جديدة ، وهي ذات إرث تاريخي قديم يرتبط تاريخياً بالغزو الاستعماري ، وحسب الحقائق التاريخية الثابتة فإن اول تفتيت استعماري لبلادنا وقع إبان الاحتلال الروماني الذي استمر قرابة سبعمائة عام حتى تمت عمليات الاسترداد على أيدي العرب بعدما حملوا رسالة الاسلام، وكان الاحتلال الروماني قسم بلادنا الى اجزاء بما يخدم رؤاه الاستعمارية، ومثال ذلك تقسيم وتفتيت سورية الطبيعية الى اجزاء ، و انتزاع سورية الجنوبية ( فلسطين) وفصلها عن الوطن الام ، وفِي ذلك يقول المؤرخ العربي السوري احمد داوود : إن التاريخ لم يشهد فصل فلسطين عن سورية الام الا خلال ثلاثة عهود ظلامية استعمارية هي عهد الاستعمار الروماني وعهد الاستعمار الفرنجي وعهد الاستعمار الاوروبي الحديث ، الذي عمل بشكل واضح وكبير وأكثر توحشاً على وضع الخطط وتنفيذها لتقسيم وتجزئة وتفتيت وطننا العربي ، ووضع المؤامرات لتغريب امتنا العربية حتى وصل الى ما وصل اليه الْيَوْمَ من تطوير حروب التفتيت والتدمير الدموية وفرضها على الأقطار العربية، واختراع حروب داخلية وإلباسها لبوس الطائفية والمذهبية والإثنية بما يحمل ذلك من أهداف التفتيت والتشظي والمحو .
ان كل ذلك التوحش الاستعماري الاستعلائي يحتاج الى انتاج صيغ جديدة للتعامل مع واقع مريع فرضه على أقطار وطننا العربي ، وكذلك يحتاج الى اعادة تعريف وتسمية لما أنتجته مخططاته السوداء ، فقد أخذ بتسمية تقسيمات الدولة القطرية تسميات مذهبية وطائفية وإثنية ، وإذا اخذنا العراق كمثال فإننا نجد التسمية الاستعمارية التفكيكية التقسيمية هي التي يستخدمها الاستعمار وأذرعه وأدواته ونجد ان الاسم الحديث ، أو اسم ما بعد الاستقلال الحديث للعراق العربي "الجمهورية العربية العراقية" ، اذ اختفى الاسم بعد اختراع (حرب الدمقراطية ) القائمة على الدم والفوضى ، وحل محله تسميات مثل العراق الشيعي أو مناطق العراق الشيعي والعراق السني والكردي .. وهكذا يبدو العراق الجديد في ظل الاستعمار الجديد بعد ان تم فرض تغيير الاسم والجغرافيا في خطاب الاستعمار وأدواته، وفِي خطاب بعض المثقفين والاعلاميين والسياسيين المبهورين برياح العولمة الجديدة أيضاً والتي تهدف الى تفتيت الامم والغاء الدول واستبدالها بصيغ تحاكي السوبرماركت والشركة في أحسن الأحوال .
مثل هذا ينطبق على سورية . لكن الامر في سورية اختلف الى حد كبير لأسباب كثيرة ومتنوعة مكنت الدولة السورية من الصمود امام أشد وأشرس الحروب دموية وتدميراً ، والتي تهدف الى تنفيذ مخططات التقسيم والتجزئة والتفتيت الطائفي والمذهبي الذي تسعى قوى الاستعمار الجديد الى تحقيقه وفرضه على ارض سورية ، رغم ان تلك القوى المعادية استطاعت إختراع حرب طائفية ومذهبية وإثنية لعينة دمرت القطر بواسطة الآلة الحربية الاستعمارية الرهيبة وبواسطة عشرات آلاف المرتزقة والغرباء الذين تم إدخالهم الى سورية ومن قبلها وحتى الْيَوْمَ الى العراق تحت مسميات وغايات عديدة وكثيرة ومختلفة خدمة وتجييشاً ورفداً للمشروع الاستعماري الجديد.
""""
في تاريخنا العربي المجيد ، ورغم تعدد حملات الغزو الاستعماري ، الا ان صيغ الاستسلام والرضوخ ظلت بعيدة ولا مكان لها ، بل في ظل الاستهداف تتضخم لدى (العروبي) صيغ المقاومة والفروسية والدفاع عن الأهل والوطن.
ولذلك فان الصيغ التي يبحث عنها الاستعمار الجديد لن يجدها في طول الجغرافيا العربية وعرضها ، ربما ينتزع بالقوة الاستعمارية المسلحة الرهيبة بعض أهدافه وربما يلجأ الى تزوير تلك الأهداف ، ولكنه لم يحصل على هدف واحد بالاستسلام مثلما يريد ، وربما يعثر على حاكم أو شبه حاكم مستسلم ولكن الأمة رافضة حتماً وجاهزة لصد ومنع ذلك الاستسلام والتجارب والحقائق التاريخية الصحيحة والدقيقة غير المزورة أكبر شاهد على ذلك.
وبالمناسبة أودّ ان أسجل سلفاً بأن ما تقدم ليس انشاءً ولا شعارات ولا (رومانتيك) كما يسهل على بعض القوى المبهورة بالآخرين ان تطلق مثل تلك الاوصاف عندما يتعلق الامر بالمشروع القومي العربي وبالأمة العربية وقضيتها المركزية فلسطين ، بل ان ما تقدم هو استنتاجات ودلائل وحقائق اثبتها التاريخ وها هي ملامحها تظهر في الحاضر ..