الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

التخطيط الاستراتيجي.. بعين الطائر أم بأحلام العصافير؟

نشر بتاريخ: 20/08/2019 ( آخر تحديث: 20/08/2019 الساعة: 20:06 )

الكاتب: صخر سالم المحاريق

الفخر بالماضي قد يضمن لك أن "لا" تكون شيئاً في المستقبل، لأن قواعد اللعبة تكون حين إذ قد تغيرت، فالأمر على هذا النحو يُثبتْ في حقيقته، استحالة التعاطي مع المستقبل بعقلية الماضي وأدواته، لأن حاضرنا وهو مستقبل اليوم هو الأهم في كتابة ما قبله وصناعة ما بعده، بحيث لا يربطه سوى التاريخ والذكريات فقط بمستقبل الأمس والذي يمثله الماضي، والبعد الاستراتيجي بمستقبل الغد وما يليه، فالمستقبل من وجهة نظري هو كل "ثانية .. بعد الآن"، يتقرر فيها المصير ويَجِبُ لأجلها التغيير، كما ويجب أن نكون على أهبة الاستعداد المسبق لها، وذلك على صعيد الأفراد والجماعات والمؤسسات أو حتى الدول، في ظل هذا الزمن المتسارع، والذي يجب أن تدركه البصائر قبل الأبصار، فإذا ما وعينا ذلك وأدركناه سنكون أكثر قدرة على التعامل مع الغد أو ما هو بعده، أو ما هو بعد أسبوع وشهر أو سنة، أو ما هو أبعد من ذلك وأكثر.
إن كلمة "الاستراتيجية" ذات المنشأ العسكري، تتمحور حول التساؤل ب "لماذا"؟ والمتبوعة بعلامة استفهام تفيد التفكير الجدي في كل ما هو آت وذات علاقة، فالتساؤل ب لماذا؟ يمثل دلالة منه على (السببية والغائية) من وجود الأشياء، وكنوع من وميض الفرض المستمر في الأذهان حول الأشياء ذاتها، هذا الوميض الاستفهامي والمسمى "بالسيناريو"، والذي يجب أن يدور في مخيلة كل صاحب قرار يعي المعنى الحقيقي "للتخطيط والبناء الاستراتيجي"، في عملية إدارية تحفزنا وتقودنا للاستمرارية، والديمومة والبقاء لهذه المؤسسات بأنواعها، بصرف النظر عن أحجامها ونشاطاتها وإن تنوعت وإن تلونت وإن تعددت، في ظل عالم يفرض عليك ديناميكية التكيف، في مقابل تناقص الثبات المقوض نحو الضمور والتراجع، وبذلك فإن ما لا تدركه الأبصار لن تدركه البصائر "أي المخيلات"، وفي ذلك كناية عن المستقبل المنشود في ظل الحاضر الموجود، فنحن في تحول دراماتيكي في كل شيء، وقد يضمن لك هذا التحول في حالٍ من الغفلةِ، نتيجة مؤسفة في نهاية المطاف، ألا وهي الخروج من" اللعبة" أو المنظومة أو الدائرة بأكملها شئت ذلك أم أبيت، وفي ذلك يقع المثل العربي القائل "لا يصلح العطار ما قد أفسده الدهر".
ولنطرح عزيزي القارئ الكريم على ناظريك جملة من التساؤلات تبدأ ب لماذا ذاتها موضوع حوارنا هذا؟ والتي يجب على صناع القرار الوقوف عليها موقف جد لا الهزو ومنها: لماذا الحاضر هو الأهم وهو الطريق إلى المستقبل؟ لماذا "التفكير المَنْطقي" يبدأ بالتحليل ثم الادراك ثم الفهم، لتكوين سيناريو حول الأشياء؟، لماذا السيناريو حالة من الفرض المستمر، وهو مُنطلق التخطيط الاستراتيجي ومنطقه؟، لماذا القرار الاداري والتنظيمي بمثابة الوقود للتخطيط الاستراتيجي؟، ولماذا القيادة تسبق الادارة في حديثنا عن عملية التخطيط الاستراتيجي؟، لماذا الرؤية والرسالة والغايات والأهداف سلسلة واحدة متصلة لا منفصلة؟، لماذا يكون التخطيط الشامل في ظل كفايات ومقدرات وأدوات متاحة يجب العمل ضمنها؟، لماذا البدايات المؤسساتية أجمل بكثير من النهايات في بُلدانِنا؟، لماذا الأحلام والرؤى جاوزت الحقائق والوقائع الفعلية؟ في مقابل أن المنجزات خفتت والشعارات علت ورنت؟، لماذا بعين الطائر وليس بأحلام العصافير يكون التخطيط الاستراتيجي؟، (لماذا وماذا وكيف)، هي الأسئلة والتي تتمحور حولها الاجابات في عنوان مقالتنا هذه حول التخطيط الاستراتيجي عزيزي القارئ الكريم؟
الاجابة على هذه التساؤلات ببساطة تكمن في جوهر ما يدل عليه سياق التساؤل ذاته، وذلك فيما طرحت من كلمات مفتاحية هي بمثابة دلالة قطعية على فن التخطيط والبناء الاستراتيجي الشامل، "فالاستراتيجية" عرفت بالقيادة ودور القائد أولاً وذلك في مهد نشأتها العسكرية، كما وصبغت دوماً بنهجٍ إداري خاص بها، تتحدى عبره الظروف ليَبْرز فيها دور تلك القيادة وعمق تفكيرها الاستراتيجي وبُعْدِه، ولم تكن يوماً مجرد "إسقاط حر" للأفكار وتقليد أعمىً لها، دون مراعاة منه للحالة وظرفيتها الزمانية والمكانية، إضافة إلى قدرة هذا القيادة على تعزيز واقع المؤسسة أو المنظمة أو الشركة أو حتى الدولة أو حتى تغيير هذا الواقع من جذوره، فالقائد وهنا أتحدث عن القيادة في مفهومها العام هو “ذلك الشخص الذي يمكنك أن تتبعه إلى مكان لم تكن لتجرؤ أن تذهب إليه وحدك”، وذلك بجعل خطط تلك المؤسسات والمنظمات على قدرٍ عالٍ من المرونة، والتكيف والتقبل للتغيير، في جميع الظروف أياً كانت صعوبتها، يلي ذلك القدرة على اتخاذ القرار وصنعه، فمن لا يملك روح القيادة لا يملك زمام المبادرة والقرار، ذلك أن معظم الناجحين يشتركون في سمة أساسية هي "الحسم" بمعنى القرار، فكل قفزة عظيمة تأتي بعد اتخاذ قرار حاسم في أمر ما، وفي بعض الأحيان يكون النجاح ليس في اتخاذ القرار الصحيح فحسب، بل في القدرة على اتخاذ القرار ذاته.
هذه القرارات عزيزي القارئ والقدرة على اتخاذها؛ لا تأتي محضَ مصادفةٍ وعدم إدراك من صاحبها إن كنا نعي جيداً مفهوم عملية التخطيط الفعلية، بل هي نتيجة لعملية عقلية تبصر الأشياء بعين الطائر وبشمولية، نظرة تعي الجزء في إطار الكل وتدرك الكل الشمولي، ويسمى ذلك هندسياً بالإسقاط العمودي لزاوية النظر أو النظرة الكلية والشاملة، فيما يعرف "بمنظور عين الطائر"، فالعملية الإدراكية يسبقها نشاط ذهني تخزيني وتحليلي عميق ومستمر، وفق معطيات متاحة وأخرى يجب استنتاجها واستنباطها، فالاستراتيجيات في بنائها العسكري لا تنظر للنتيجة أي "النصر" كمرحلة مؤقتة وفي أنها جولة واحدة فقط، أو نتيجة حتمية بنسبة فوز مطلق، وإن كانت الامكانيات والقدرات تفوق الخصوم، بل تنظر في أدق التفاصيل وأكثرها عمقاً، ليصح القول بتحقيق نصر استراتيجي، والذي يظهر لنا ما يعرف بالسيناريو بشقيه المتفائل والمتشائم، وإلا خابت الظنون وقلبت الانتصارات هزائم، وكذلك هو الأمر ذاته في جوانبه الادارية والتي نقصدها في هذه المقالة.
يقول الرئيس الأمريكي روزفلت: “التمني يستهلك نفس الطاقة التي يستهلكها التخطيط”، وهذا فعلاً ما نشهده في واقعنا وواقع مؤسساتنا العربية من وهم بالمستقبل، وكأن بنا فقط نضع صور مشرقة حوله، لغيات الترويج والتصوير والتفخيم والتبجيل، والحقيقة مرة وعكس ذلك تماماً، كما ونلحظ مدى هشاشة العلاقة والتي تربط تلك الرؤى بأهدافها وغايتها الحقيقة، هذا إن صحت أصلاً عبر أدوات فعلية، وبذلك تزداد الفجوة العكسية بمزيد من الضبابية حول الأسباب والتي دفعت بنا لصياغة هذه الأهداف والرؤى، والتي تناسينا حين صياغتها التساؤل ب لماذا؟ في ظل الامكانيات والمقدرات الفعلية لمؤسساتنا، وكأن بنا نقول “اطلق العنان في مدك لقدميك وإن قصر فراشك”، فالمنطق أيها السادة يقاس بمدى قربه من الواقع لا بمدى جاذبية الأحلام والغفوة في فقاعاتها، وفي ذلك مقصدي حين قلت يجب علينا التركيز على الحاضر أي اليوم الذي نحن فيه، مع نظرة إلى الأمام لصناعة المستقبل وكتابة الماضي، يقول بوني نت: “ليس المهم هو الرغبة في النجاح، فكلنا بلا استثناء لدينا الرغبة لذلك، المهم هو الرغبة في الإعداد الحقيقي للنجاح”.
وخلاصة القول عزيزي متخذ القرار وصانعه، بغض النظر عن منصبك أو وظيفتك أو طبيعة عملك، إن رغبت في التفكير بمنطق القادة، في مجال الادارة على وجه الخصوص والمجالات كافة، ولكي تكون علامة تعجب وسط علامات الاستفهام الكثيرة من حولك، عليك بالتساؤل الدائم ب لماذا؟ في استفسار منك حول سببية الأشياء وغائيتها كما أسلفت، حيث يقول الكاتب سايمون سينك في قاعدته والمعروفة بالقاعدة الذهبية (ماذا كيف ولماذا) في إشارة وتوضيح منه لكل تساؤل، في دائرة متحدة المركز تنطلق بمركزها بالتساؤل ب (لماذا؟) في إشارة منها عن هدفٍ سامٍ
يتعلق بسبب الوجود والغاية منه على سبيل المثال "لماذا تأسست المؤسسة، ما هي الغاية الرئيسية من وجودها"، وهذا الهدف السامي هو منطلق التحفيز والتوجيه والقيادة والذي يجب أن ينقله القادة للآخرين معنوياً وليس مادياً، ليحصل على شغفهم في السعي المستمر لتحقيقيه، فعلى سبيل المثال لا الحصر نرى حتى في المعارك غاية سامية (كإحقاق الحق، والحرية، والعدالة، والنصر ... الخ)، أما دائرة (كيف؟)؛ فتمثل الطريقة أو الكيفية والتي سنحقق فيها الشيء المقصود بماذا لنفترض في أنه منتج ما، أما (ماذا؟) ذاتها فتمثل الدائرة الخارجية، والتي توضح الشيء المعني؛ مثل منتج ما نسعى لإنتاجه وتسويقه، وفي الختام يجب علينا أن نخرج من دائرة الحلول الآنية والمؤقتة، كمَنطقٍ ومُنطلق للتخطيط السطحي الهش، وعلى صناع القرار إدراك ذلك وتناوله على محمل الجد، كما يجب علينا النظر العميق فيما يدور حولنا وما هو متاح لنا، لصناعة ما هو ممكن وملائم لقدراتنا دون بسطٍ أو زيادة، يقول جويل باركر “الرؤية من دون عمل ما هي إلا حلم، والعمل من دون رؤية ما هو إلا مضيعة للوقت، أما الرؤية مع العمل هي ما يمكنها أن تغير العالم”، ويقول أيضاً “عندما تلقي بأية فكرة جديدة في محيط العالم الشاسع، فانك غالبا ستحصل على تموجات، وسر النجاح يكمن في أن تكون حركة تلك التموجات متوقعة، فلا تدع نجاحات الماضي تغلق عليك كل أحلام المستقبل”، فلكل مقام مقال، ولكل فعل رد فعل، إن كان مساوٍ له في المقدار فهذا منطق الإدارة السليمة، أما إذا كان معاكساً له في الاتجاه وهنا أقصد ما (بعد التوقع)؛ فهذا يدل على سلامة السيناريو المفترض والموضوع، أما إذا كان معاكساً له في (النتيجة)؛ فهذا دلالة منه على خلل وفشل ذريع في مدخلات أو عمليات التخطيط، فالإدارة السليمة هي (إدارة التوقع) قبل الحدث، وهي بذلك تجعل المستحيل ممكناً تحت منطق التكيف في جميع الظروف، وبذلك يملك صاحب قرار مَلَكةِ التخطيط الاستراتيجي الفعال والكفؤ.