الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

الأسير الأول محمود حجازي- من زنزانة رقم 139 الى دوالي العنب في الخليل

نشر بتاريخ: 12/10/2019 ( آخر تحديث: 12/10/2019 الساعة: 15:55 )

الكاتب: عيسى قراقع

نحن شعب نمشي بين قنبلتين واكثر، نمشي بين زنزانتين واكثر، بين جدارين وقيدين وبابين، نشتهي الموت لكننا نشتهي الحياة اكثر.
اذا اراد العالم ان يعرفنا فليأت الى القدس وجبل الزيتون ليرى الصلاة الجماعية تقام تحت الشجر، ويرى الآيات المباركات تتطاير في شظايا الحجر، من لا يعرف الفلسطينيين فليأكل من عنب الخليل، نحن اول من حمل الحطب وقدح النار واعطى الاسماء للجبل، سيرى حينها اننا تحت الدوالي ولدنا وتحت المطر.

نادينا نحن الفدائيين: يا عنب الخليل، وانطلقنا في الخامس والستين، قمنا من تحت الخراب، رممنا عظامنا ونهضنا، لم ننتظر احداً، لا سلاماً يأتي فوق الحراب، ولا حروباً من خلف الضباب، لم نسافر خارج حدود الاغنيات، أحرقنا كل الوصايات، عانقنا بنادقنا فأقسمنا ان نوقظ ما تحت الارض وما في السماوات.

نادينا نحن الفدائيين: يا عنب الخليل، وانطلقنا في الخامس والستين، اقسمنا ان نوقظ هذه الارض التي استندت الى دمنا، ان نشرب من عنب الخليل، ان تظل على اغصان احلامنا كل الامنيات، واقسمنا ان نفتح باطن الارض ونخرج من احشائها كل ضحايانا، ان نسكب ارواحنا حليبا كي يستيقظ الشهداء من قبلنا، نرش فوق جفونهم اصواتنا وهبوب عاصفتنا، وانطلقنا، ومن دمنا الى دمنا رسمنا هويتنا وتضاريس الارض التي تسمرت فوق ترابها اقدامنا.

في الخليل اختبأ الاسير الاول محمود بكر حجازي تحت كروم العنب، نام طويلاً، حرك الفأس واستخرج البندقية من باطن الارض، لبى نداء البلاغ الاول، كانت دوالي الخليل تشد اعوادها واغصانها وأوراقها في الحقول، تبني لمحمود الخيمة والخندق، ومن هناك وفي يوم 8/1/1965 انطلق محمود مع مجموعة من الفدائيين في عملية عسكرية شمال غربي قرية بيت جبرين قضاء الخليل، كانت الدوالي تقاتل، والنجوم والكنعانيون الاوائل.

وقع محمود حجازي اسيرا جريحاً بعد اشتباكات مع قوات العدو الاسرائيلي، وكان خلال الاشتباك يعصر قطوف العنب، يعصرها ويعصرها باروداً أملأ صموداً حتى ذابت الخليل في دمه ونامت بين ذراعيه سيدة لصورتها وشامة فوق سواعدنا، تكتب في جروحنا سيرة الدوالي التي رسمت خريطة وجودنا.

محمود حجازي وجد في بساتين الخليل وصخورها بيتاً وطعاماً ورصاصا، رفض ان يرحل الى الخيام المبعثرة خلف الحدود، رفض ان يلحق بعربات وكالة الغوث ويقف في صف طوابير التموين، يكفيه عنب الخليل، تكفيه الخبزة والعكوب والعليق والخروب والرمان والدمع الطاهر الذي يصب في عروق الجليل.

الاسير الاول محمود حجازي ابن مدينة القدس، قائد المظاهرات في شارع صلاح الدين، رأى قمر الحرية فوق دوالي عنب الخليل، قمر يقترب، يأتي من كل الجهات السماوية، هنا الثورة، هنا الخليل، هنا منظمة التحرير الفلسطينية، قطوف الثورة حبلى، قطوفها دانية، وعندما جاء ابو الانبياء ابراهيم عليه السلام الى الخليل ارتدى الكوفية، حرث ارض كنعان بالنبوات، بنى مسجداً وعلق فوق كتف محمود حجازي بندقية، ابونا ابراهيم كان يأكل العنب الخليلي، الجندلي والدابوقي، يبلل شفتيه بماء العنب، يطلب من محمود حجازي ان يحرس الينابيع والكروم، وان يحذر من الغزاة القادمين ومن السيوف الغادرة: احمل قطوفك يا محمود وامسك حفنة العشب الاخيرة.

الأسير محمود بكر حجازي اول فلسطيني يقع في الاسر بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وحده الان في الزنزانة رقم 139 في سجن عكا، عصابات الهاجاناة وايتسل وشتيرن تحيط به، قيود في يديه، جهابذة القتل والتطهير العرقي والابادة، مشانق عتيقة تتدلى من سقف الزنزانة، هنا كان الشهيد فرحان السعدي ومحمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، هنا زج الالاف من الفلسطينيين والعرب في عهد الاستعمار البريطاني لفلسطين.

محمود حجازي رأى كل الذين اعتقلوا في سجن عكا احياء وشهداء، حسن سلامة وعبد القادر الحسيني وسعيد العاص وخليل بيدس وعوني عبد الهادي وفارس العزوني وفخري عبد الهادي وحسن اللاوي وعبدالله الاسعد وعبد الرحمن العزة وعبدالرحيم الحاج محمد وعبد الرحمن زيدان وسليمان ابو خليفة وعبد الحليم الجولاني وخليل العيسى وتوفيق ابراهيم ويوسف ابو درة.... اسماء محفورة مصلوبة على حيطان السجن، رائحة دماء معتقة، جروح مضيئة، رائحة عنب الخليل تمتزج برائحة الغائبين، ما اوسع الزنزانة، ما اكثر الابواب، ما اجمل الاناشيد الطليقة.

مارس المحققون الاسرائيليون اساليب تعذيب وحشية بحق الاسير الاول محمود حجازي، لم يجدوا في شرايينه سوى سكر العنب الخليلي ومئات الخلايا الفدائية التي تمردت على النكبة والهزيمة، حكموا عليه بالاعدام، ارادوا ان يطفئوا صوت بحر عكا الهادر من صدره ويخنقوا الرئة التي تتنفس الامواج، البسوه البدلة الحمراء شهوراً، المقصلة قرب الباب، هل سيموت شنقاً ام بالرصاص ام بالسم الزعاف؟ دقت ساعة الموت كثيراً قبل ان يلغوا حكم الاعدام، وكان محمود يغني اغنية خليلية، وقد قال احد المحققين: ان سر صمود الاسرى في التحقيق هو ان في اجسامهم عنب من جبال الخليل.

الاسير الاول في السجن، في الزنزانة رقم 139، الزنزانة كبرت، صارت سجون ومعسكرات، مليون فلسطيني مروا على هذه السجون، لم يبق سجن الا ويجد له قضبانا واسلاكا في لحمنا، سجون ورثها جلاد عن جلاد، سجون تمتد من البحر الى الصحراء.

الاحتلال الاسرائيلي اعتقل محمود حجازي واحتلوا مدينة الخليل، طبقوا فيها نظام الابرتهايد العنصري، معازل واقفاص ومستوطنات، المدينة صارت مستوطنة، اخترع الاحتلال له تاريخا زائفا بعد ان سلخ جلدة الارض وقطع اشجار الدوالي، انه يبحث عن الفدائيين ابناء محمود حجازي، طائرات مصفحات وقنابل، سقط الشهداء تحت دوالي العنب في الخليل من باجس ابو عطوان حتى مروان زلوم وميسرة ابو حمدية، شهداء وشهداء، امتلأت القبور، بكى العنب دماً وفاضت في الحرم الابراهيمي جثث المذبحة.

في الزنزانة رقم 139 سمع محمود حجازي صوت الشهيد خليل الوزير (ابو جهاد) يقول: لن نتخل ابدا عن محمود حجازي، لن نتركه وحيداً، لقد حركنا العالم كله خلف قضية محمود، وخلال ستة شهور كنا قد رفعنا مذكرات الى هيئة الامم المتحدة وكل الهيئات الدولية والاتصال بالمحامين للدفاع عنه، ودعا ابو جهاد الى تحويل محاكمة محمود حجازي الى محاكمة لسلطات الاحتلال نفسه.

منذ ذلك الوقت ومن البدايات وضع ابو جهاد قواعد واسس العناية بالاسرى والشهداء والجرحى وذويهم، توفير الحماية السياسية لهم، الدفاع عنهم، السعي لاطلاق سراحهم، حماية عوائلهم اجتماعياً واقتصادياً ليعيشوا بكرامة، ووفق هذه المبادئ الراسخة لازال الشعب الفلسطيني وقيادته يدافعون عن الاسرى كرموز للحرية، ولازال شعبنا يخوض معركته السياسية والقانونية ضد سياسة الاحتلال، يرفض الضغط والابتزاز والقرصنة، يرفع شعبنا واسرانا شعارهم الانساني: الجوع لا الخضوع، الكرامة لا المساومة.

بتاريخ 28/2/1971 تحرر الاسير محمود بكر حجازي في عملية تبادل مع احد الجنود الاسرائيليين الذين اسرتهم الثورة الفلسطينية في لبنان، وعندما سأله الصحفيون: ما هي امنيتك بعد التحرر؟ اجاب محمود: ان اعود الى كروم وجبال الخليل، هناك تركت روحي وذكرياتي واصدقائي الشهداء، وعندما سألوه لماذا الخليل؟ قال محمود: عنب الخليل لا يصبح حصرم، عنب الخليل الحر عندما يثمر يصبح سماً على الاعداء، يصبح علقم.

انا والمسيح ولدنا على هذه الارض، النساء الخليليات ارضعننا الدبس وعسل الزبيب، كبر الطفل فينا ووصل سن الرشد على قوس شمس ونور لا يغيب.