الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

صِراع على المسيحيّة في أمريكا اللاتينيّة

نشر بتاريخ: 15/01/2020 ( آخر تحديث: 15/01/2020 الساعة: 19:11 )

الكاتب: أنيس سفوري
أمريكا اللاتينيّة، هذهِ القارة المُمتدّة مِن حُدودِ الولاياتِ المتّحدة الأمريكيّة مع المكسيكِ شمالًا، إلى تشيلي والأرجنتين جنوبًا. شكَّلت مُنذُ إكتشافّها مطّمَعًا للإسّتعمار الإسّباني والبرتغاليّ، وصّولًا إلى المُحاولاتِّ الحثيثّة للهيْمنةِ عليْها من قِبَلِ الولايات المتّحدة الأمريكيّة، والتي ظهرت جليًا بما يُعّرَف "بمبدأ مونرو" عام 1823 نسبةً لرئيس أمريكا السّابِق "جيمس مونرو" الّذي تمحّور حوْلَ فكّرة عدم التَدخُّل الأوروبيّ في الشؤونِ الأمريكتيّن، وبذلّك حصلت الولايّات المتّحدة الأمريكيّة على تفرُّدِها بالهيمّنةِ على القارَّةِ اللاتينيّة، الّتي شَهِدَت حركاتٍ مُناهضةٍ لهذهِ السِّياسات الّتي أخذت شكلها بوُضوحٍ في فتّرةِ الحرّب الباردة، عن طريقِ رسم تُحالُفاتِها مع الإتحادِ السوفييتّي، ضدَّ المُعسكر الغربي بزعامة الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
بِخِضَّم هذا الصّراع تَشكَّل نموذجًا فريدًا من نوعهِ، وذلّك على مسّتوى تحالف الحركات اليساريّة مع رجالِ الدّين من الكنيسةِ الكاثوليكيّة، الّذين دمجوا الأفكار الدينيّة المسيحيّة بنهجٍ مُعّارض للهيمنةِ الخارجيّة والمُنحاز للطبقات الفقيرة والمظلومة. وذلك إستنادًا إلى تعاليمِ السّيّد المسّيح عليْه السّلام الرافضة للاستغلال والظّلم، حيثُّ اُطلقّ على هذهِ الأفكار الدينيّة "لاهوت التحرير" (رُغمَ أنَّ ليس كُلَّ الكاثوليّك مُقتنعين بها).
لم يقتصر إسناد رجال الدّين للحركات الثورية بالشِّعاراتِ والمواعظ، بل تعدّو ذلك بِقِتالهم جنبًا إلى جنب في ميادّينِ وصفوف القِتال، وتحمّلوا أعباءَ القتّلِ والاعتقالِ على يدِ الحكّومات العسّكرية والمُعارَضات اليمينيّة المدعومة مِن الولاياتِ المتّحدة الأمريكيّة. ونُشير هُنا إلى الأب "كاميلو دوريس" الّذي قُتِلَ في إحّدى المُعسّكراتِ التّابِعةِ لحركةٍ مُسلحةٍ يساريّة (ضمن تأديته واجبه الثوريّ في كولومبيّا عام 1966)، ونُسِبَ القول له "لو كان المسيحُ حيًا اليوم لكان ثائرًا مُسلحًا فِدائيًا أو من رجالِ الغُوار" (كتاب اليسار والخيار الإشتراكي، للكاتب داود تلحمي.)، إذ أثّمرت كلّ هذهِ التضحيات سيْطرة الحركات اليساريّة على عددٍ كبير من بلّدانِ أمريكا اللاتينيّة.
حتى فترة قصيرة، ظهرَ من جديد صّراعًا قويًا بين الطّرفين ظاهرًا للعيان، حيّثُ قِسمًأ من هذهِ الدّول تمَّ إسّقاط الحكومات اليساريّة فيها بإنّتخابات ديمقّراطية، والقسم الآخر ما زال يشهد اضطّراباتٍ واحتجاجّاتٍ مُستمرّة وتدخلات أمريكيّة عنّ طريقِ التهديدات وفرض العقوبات.
لم يكن التغيير سياسيًا فقط في هذه البُلدان، بل طالَ أيضا "لاهوت التحرير"، عن طريقِ إنتشار الجماعات المسيحية الصهيونية بأعدادٍ كبيرة في هذهِ الدول. ونضرب مثالًا على ذلك "البرازيل" الّتي فاز بانتخاباتها الأخيرة، "جائير بولسونارو" اليمينيّ المُتحالف مع الولاياتِ المُتحدة الأمريكيّة والّذي شهدْنا استعداده بنقل السّفارة البرازيليّة للكيّان الصّهيوني في القدسِ المحتلة بعدَ إعْلان رئيس الولايّات المُتّحدة "ترامب" نقّل سفارة بلاده إليّها.
إذا نظرنا مُعمقًا للتحوّلات الّتي شهدتّها البرازيل بشكْلٍ خاصّ وأمريكا اللاتينيّة بشكْلٍ عامّ، نجد إنتشار المسيحيّة الصّهيونيّة بكثّرة في البرازيل، وخصّوصًا "جماعّة العَنّصرة" هذه الجّماعة الانجليكانيّة الّتي تطّرح أفكارٍ لاهوتيّة للخلاصِّ، تتعلّق بدعمّ دوّلة إسّرائيل وإقامة الهيكل اليهودي على أنقاضِ مسّجد الأقصّى المُبارك. كما تصّطف هذه الجّماعة مع اليميّنِ المدعوم من الولايّاتِ المتحدة الأمريكيّة وتعطيه غطاءً دينيًا لمُعاداتهِ لليسار ولاهوت التحرير، كـهرطقاتٍ لا تمُت للمسيحيّةِ بصلة. حيثُ تُأصِّل فكّرها بأنَّ الخلاص الحقيقيّ آتٍ بعودة السّيّد المسيح عليْه السّلام بعد بناءِ الهيكل، ليعُمَ بعد ذلك الخير والسّلام على العالمِ.
لندْرك التغيير الحاصل بالبرازيل عليْنا إيّراد المُعطيّات الآتية:
لقد كانت الكاثوليكيّة تُشكل ما نسبته 90% مِن سُكانِ البرازيل. وتُشكل باقي الكنائس والدّيانات 10% من سُكانِ البلاد. أمّا اليوم فتشكل الكنيسة البروتستانتيّة (ليس كل البروتستانت من المسيحييّن الصّهاينة) ما نسبته 25% من سُكانِ البرازيل. فهذه النِسبّ تشيرُ إلى إنتشارٍ واسِعٍ تضمَّن أيضًا الكنائس المسيحيّة الصهيونيّة الّتي تُشّمل بالإسّتطلاع ضمن الكنائس البروتستانتيّة.
أخيرًا إنَّ الدين نوعّان، كما يَصِفهُمّا "علي شريعتي" في كِتابِهِ "الدّينُ ضِدَّ الدّين"، فإمّا دينٌ يُعزِّز الإسّتغلال والإضطّهاد بغطاءٍ شرعي، لتخدير الشّعوب والسيْطرة عليْها. وهذا بدورهِ ما تحاول فعلهُ المسيحيّة الصهيونيّة في أمريكا اللاتينيّة، أو إمّا دينٌ ثوري يُحفِز بدوره النّاس على رفضِ الإضطّهاد والظلم، بحيثُ يَعِدَهُم بالحياة الرغيدة والعادلة في الدُّنيا والآخِرَة، وهذا ما تَمثّل في "لاهوتِ التحرير". ما يحدُث اليوم في أمريكا اللاتينيّة ما هو إلّا إسّتبدال الدّين الثّوري بدين الإضطّهاد لمُساندة الهيّمنة الأمريكيّة سياسيًا وإقتصاديًا، فالدّيانات المُصنّعة بأيادٍ أمريكيّة وصهيونيّة لا تخّتلف في جوهَرها، فهُنا تقّتُل الشًّعوبِ بسياراتها المفخّخةِ وهُناك تقتل الشّعوب جوعًا ومرضًا تحتَ وطأة الحِصار أو جّشع الشّركات واسْتِغلالّها.