الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

خيار الدولة الديمقراطية الفلسطينية

نشر بتاريخ: 25/07/2020 ( آخر تحديث: 25/07/2020 الساعة: 18:58 )

الكاتب: هبه أ. بيضون

في العام 1971، نشر د. نبيل شعث في العدد الثاني من مجلة شؤون فلسطينية مقالاً بعنوان " فلسطين الغد" ، تحدث فيه عن دولة جديدة هي " الدولة الديمقراطية" ، ولكن لم تكن تلك الدولة الديمقراطية التي تحدث عنها في ذلك الوقت، هي ذات الدولة الديمقراطية التي تندرج تحت مفهوم " حل الدولة الواحدة " البديل لحل الدولتين والذي لم يطرح أبداً على الطاولة من قبل الإسرائيليين، ولكن بدأت بعض الأصابع تشير إليه في هذا الوقت الحرج والصعب الذي تمر به قضيتنا، بهدف جس النبض أوقد يكون لتمهيد الطريق لتصفية حل الدولتين نظرياً وعملياً، وتغيير مواقف كانت معلنة نتيجة ضغوط معينة تتعرض لها بعض الدول، التي كانت تؤكد على ثبات موقفها وإصرارها على أن القضية الفلسطينية لن تنتهي إلا بحل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967.

إستند د. نبيل في كلامه عن الدولة الديمقراطية على كلام مندوب فتح الذي تحدث فيه إلى مؤتمر القاهرة لنصرة الشعوب العربية في نهاية الستينيات، والذي أعلن فيه بإسم الثورة الفلسطينية قائلاً: " إننا نقاتل اليوم في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بجميع طوائفهم، مسلمين ومسيحيين ويهوداً في مجتمع ديمقراطي تقدمي، بحيث تمارس كل فئة عباداتها وأعمالها، ويتمتع الجميع فيها بحقوق متساوية.

سميت الدولة الديمقراطية المطروحة في ذلك الوقت إفتراضياَ على أساس ما نطمح أن يكون " الدولة الفلسطينية الديمقراطية اللاطائفية العربية"، ومن إسمها هي دولة فلسطينية يحكمها الفلسطينيون، دولة لا يكون للنظام الإسرائيلي أي نوع من السيطرة عليها، ولا وجود للإحتلال على أراضيها، دولة محررة بالكامل من جميع التبعيات الإحتلالية وكذلك الإمبريالية، كانت تتركز فكرة قيام الدولة الديمقراطية الفلسطينية على إقامتها على كامل الأرض الفلسطينية المحررة (فلسطين التاريخية) التي احتلت عام 1948 وكذلك الأراضي التي احتلت عام 1967، وكما طرحت حينها فإنها لا تحمل أي شبه جغرافي أو أيديولوجي لما يدعى بالدولة الفلسطينية العازلة في الضفة وقطاع غزة.

دولة تبنى على أسس ديمقراطية حقيقية، تكون فيها حرية الرأي والتعبير والممارسات والعبادات مكفولة للجميع. دولة تكون موحدة علمانية لا طائفية، تلك الدولة الفلسطينية كانت ستقوم بعيداً عن نظام المحاصصة في أي شيء، دولة ممنوع فيها الحديث عن أي تمييز كان سواء بالدين أو اللون أو العرق، الدولة الفلسطينية الديمقراطية كانت لتنتمي للأمة العربية قلباً وقالباً، دولة يكون فيها اليهود والمستوطنين جزءاً لا يتجزأ من النسيج الإجتماعي للدولة إلى جانب المسلمين والمسيحين، ويكون الجميع جزءاً من الوطن الفلسطيني الذي هو جزءاً لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير، وهذا هو بعدها القومي.

كانت " فلسطين الجديدة" المطروحة دولة مختلفة تماماً عن دولة الكيان الصهيوني القائمة، فهي ليست شبيهة لها بأي شيء وليست إسرائيل أخرى مقنعة وليست نسخة عن النظام العنصري - بحكم القانون- الذي كان من المفترض أن تحل محله، والذي هو سائد لغاية الآن .

فدولة الكيان التي كانت ولا زالت قائمة هي دولة عنصرية طائفية عرقية، أما الدولة الفلسطينية الديمقراطية اللاطائفية العربية التي كانت مطروحة كرؤية مستقبلية ، هي دولة لا طائفية، لا عرقية، لا عنصرية، بل دولة تقدمية، وبحيث تكون جزءاً من الحركة الثورية العربية ومن الأرض العربية المتحدة مستقبلاً.

وبهذا المفهوم المطروح، فإن هذه الدولة الفلسطينية الديمقراطية لن تكون إلا نتيجة للتحرير وليس بديلاً عن التحرير، ولا نتيجة أي تسوية على حتى شبر واحد من الأرض، ببساطة كانت الرؤية أنها ستقوم على تدمير " دولة الكيان الصهيوني" بعد تحرير فلسطين، كل فلسطين.

دولتنا الفلسطينية المطروحة آنذاك لن تكون مغلقة للعرب، ولم تكن لتكون بلداً إقطاعياً أو أرستقراطياً أو إمبريالياً أو حتى قاعدة للقوى الإمبريالية، فهي دولة لا مجال للقهر السياسي فيها ولا مجال للإستغلال الإقتصادي.

إنفتاح الذهن الفلسطيني كان سيقبل أيضاً إنتقال الجوانب الإيجابية من مؤسسات الكيان إلى الدولة الجديدة، لتؤدي إلى نقل الموارد الإقتصادية وخلق وقائع إقتصادية جديدة على الأرض بدمج الإقتصاد الفلسطيني بالإقتصاد العربي بعد التحرير، والتخلص من أي تبعية لإقتصاد الكيان الصهيوني.

أما الدولة الديمقراطية الواحدة التي بدأ البعض يروج لها ويلوح بها مؤخراً لتكون بديلاً عن حل الدولتين، فهي دولة تحت وصف أنها ديمقراطية تحكمها إسرائيل وأنظمتها، دولة ديمقراطية بالمسمى ولكنها قائمة على أرض محتلة، يكون السكان الأصليين فيها درجة ثانية بحكم القانون، يريدونها يهودية يعيش فيها الفلسطينيون مع الإسرائيليين على أرض فلسطين التاريخية كاملة تحت سيطرة الإسرائيليين، ويعملون على تجميع يهود العالم فيها لخلق التوازن الديمغرافي أو إجهاض التفوق العربي الديمغرافي، بمعنى أن تكون تلك الدولة تحت مسمى " إسرائيل"، يريدونها إندماجاً كاذباً يؤدي إلى إنصهار الفلسطينيين طوعاً في دولة الكيان والتنازل عن حقوقهم في كامل فلسطين التاريخية 1948 و 1967 ، يريدونها دولة عنصرية من حيث الجوهر لأن قوانينها عنصرية ولأنها قائمة على أيديولوجية عنصرية تؤمن بتفوق العرق اليهودي على جميع الأعراق الأخرى...يريدونها دولة واحدة يصبح فيها صاحب الحق هو التابع والمحتل هو المسير والأساس، تماماَ كما هو الحال الآن ونحن تحت الإحتلال، ولكن بصورة يشرعن فيها الإحتلال ليحوي الفلسطينيين تحت جناحيه في ظل شعار المواطنة ( المتكافئة في العلن، والتي تفتقر إلى المساواة الحقيقية في الواقع).

والآن، ما إمكانية تطبيق الطرح الفلسطيني لمفهوم الدولة الديمقراطية الفلسطينية المذكورة؟ كان ذلك الطرح ممكناً في ظل توازن القوى في ذلك الوقت، عندما كان العالم يحكمه قطبين الأمريكي والسوفييتي، أما في ظل إنعدام توازن القوى كما الوضع الحالي، وفي ظل سيطرة القطب الأمريكي الواحد على العالم، فلا يمكن أن تطبق أو أن تقام مثل هذه الدولة، طبعاً على إعتبار أن التحرير أمراً مسلماً به.

ولكن في حال أن العالم – كما يبدو- سيتجه نحو نظام توازن القوى وتعدد الأقطاب بتنامي دور وأهمية بعض الدول كالصين وروسيا واليابان والهند وربما البرازيل، فقد يصبح قيام الدولة الفلسطينية الديمقراطية ممكناً، وأكرر على أساس أن التحرير أمراً حتمياً مستقبلاً.

ولكن لا يكفي هذا الشرط لقيام دولتنا الفلسطينية الديمقراطية، إذا لا بد لنا أن نتوحد بصورة كاملة ودائمة، توحداً إستراتيجياً لا آنياً، قائماً على الإتفاق على الهدف الإستراتيجي وعلى التكتيك أيضاً، كما يتطلب قيام دولتنا الفلسطينية الديمقراطية أن نعيد بناء الدولة على أسس ديمقراطية ممأسسة وحقيقية، وأن نبني إقتصاداً قوياً مستقلاً مربوطاُ بالعالم العربي لتحقيق التكامل الإقتصادي وبعيداً كل البعد عن الإقتصاد التابع بمفهوم الإستغلال والسيطرة.

وبناء عليه، ففي الوقت الحاضر، يستحيل قيام الدولة الفلسطينية الديمقراطية الحلم للأسباب التي ذكرتها آنفاً، ولأن التحرير الكامل لم يعد مطروحاً في إستراتيجيتنا كالسابق إلا في حال تغيرت الظروف العالمية والإقليمية والعربية، إن التحرير يحتاج إلى خطة ممنهجة وموافق عليها من قبل جميع العرب الذي بدأ بعضهم منذ ما يقارب ربع قرن أو يزيد على التهافت على إرضاء إسرائيل والهرولة نحو التطبيع الجزئي ثم الكامل معها.

أما خيار قيام الدولة الديمقراطية الذي لم يطرح بعد بصورة رسمية من قبل إسرائيل كما ذكرت في بداية المقال، وإنما بدأ البعض الخارجي يتحدث عنه، والذي من الممكن أن تطرحه إسرائيل كبديل عن حل الدولتين في حال تم وضع رؤية لحل التفوق الديمغرافي والسيطرة على ما يخشونه من ضياع قومية يهودية الدولة، فهو أن تكون الدولة التي ستوصف بالديمقراطية تحت السيادة الإسرائيلية ، وهذا الحل للدولة الواحدة مرفوضاً رفضاً قاطعاً بالنسبة لنا كفلسطينيين، لأن القبول بالدولة الواحدة تحت السيادة الإسرائيلية يعني الإستسلام للأمر الواقع الصهيوني، كما يعني التنازل عن فلسطين كل فلسطين لصالح المشروع الصهيوني، وبالتالي الإعتراف والإقرار بإنتصار الحركة الصهيونية وبأن فلسطين لهم، كما أنه يعني الإعتراف بالهزيمة التاريخية للشعب الفلسطيني والأمة العربية أمام هذا المشروع الصهيوني الخطير، وبالتالي دفن مشروعنا الوطني الفلسطيني وإقامة دولتنا المستقلة إلى أبد الآبدين، وفي ذلك إستهتار وإغفال لدماء الشهداء الزكي، وكذلك نسيان معاناة وتضحيات أسرانا في معتقلات الإحتلال الصهيوني، في حال تم طرح هذا الخيار رسمياً سواء من قبل إسرائيل أو غيرها سيهدف إلى تذويبنا وصهرنا لكي نتلاشى نحن وطموحاتنا وحقوقنا، وطبعاً سيكون الرهان على أن المجتمع الصهيوني سينتهي وسيتحول إلى دولة ديمقراطية تتساوى فيها الحقوق، وهذه حتماً مراهنة خاسرة.

لن نعيش في ظل نظام يسيطرعلينا وينتهك عرضنا وكرامتنا، لن نعيش في أي نظام تسلب فيه إرادتنا وقرارنا الوطني المستقل ويمحي نضالات شعبنا، لن تكون النهاية في ظل نظام أبرتهايد يدّعي الديمقراطية، وأن نقبل بالذل والتمييز والعنصرية الذي لم نقبل به ما حيينا وعانينا كشعب الأمرين للحفاظ على كرامتنا وحقوقنا. إن خيار الدولة الواحدة مرفوض.

لا يبقى لدينا إذن، وضمن المعطيات التي يجب أن نحافظ عليها ونناضل من أجلها بداية بالمقاومة الشعبية السلمية والمعارك السياسية والدبلوماسية سوى حل الدولتين، دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967، على أن تبقى خياراتنا الدفاعية مفتوحة إلى أبعد الحدود لو اضطررنا لذلك، نذكر إسرائيل والعالم أن تنازلنا عن فلسطين التاريخية 1948 من أجل الواقعية السياسية وللإمتثال للشرعية الدولية التي شرعنت وجود إسرائيل كدولة تحت ظروف خاصة، كان مؤلماً جداً بالنسبة لنا، ودفعنا ثمنه الكثير.

وبالتالي من الأفضل لدولة الكيان الصهيوني ألّا تحرف المسار، وألا تفكر بأي نوع من التمادي لتغيير حدود الرابع من حزيران أو إعاقة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة على حدود الرابع من حزيران 1967 ، لكي لا يأتي الوقت الذي نضطر الى التحدث فيه عن الدولة الديمقراطية الفلسطينية التي طرحت منذ عقود، والمرتكزة في الأساس على تحرير فلسطين كامل فلسطين، وإسرائيل تعرف ماذا يعني ذلك، ببساطة العودة إلى المربع الأول الذي لا نمانع من العودة إليه لو تمادت إسرائيل في أكل حقوقنا التي لم يتبق منها بالأصل إلا النذر اليسير...على دولة الكيان أن تشكر الرب على أننا تنازلنا مكرهين ومتألمين عن هذا الطرح بحكم الواقعية السياسية..