الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

دور عرب 48 في مستقبل القضية الفلسطينية

نشر بتاريخ: 26/08/2022 ( آخر تحديث: 26/08/2022 الساعة: 10:46 )

الكاتب: د. اسعد العويوي

عرب إسرائيل”، أو من يطلق عليهم كذلك فلسطينيي الداخل، أو “عرب 48″، يمثلون نسبة 20% من عدد سكان إسرائيل. وهؤلاء هم الفلسطينيون الذين بقوا في أرضهم عند إعلان دولة إسرائيل عام 1948، ومنحتهم إسرائيل الجنسية في العام ذاته. وشهد العام ذاته طرد الشعب الفلسطيني من بيته وأرضه لصالح إقامة إسرائيل، وبات يعرف لاحقًا بـ “النكبة” الذي يصادف موعده 15 أيار من كل عام. والعنف الأخير الذي اندلع في المدن التي يعيش فيها العرب منذ عقود مع اليهود الإسرائيليين، أحدث خللًا بالتوازن الهش فيها. استخدام مصطلح “عرب إسرائيل” بين وسائل الإعلام الإسرائيلية، يهدف إلى دمجهم وتحويل انتمائهم إلى ما يسمى بالأمة الإسرائيلية، وعزلهم بذلك عن الفلسطينيين القاطنين في قطاع غزة والضفة الغربية. أما تعداد “عرب 48” رسميًا يبلغ مليون و800 ألف نسمة، ينحدرون من 160 ألف فلسطيني بقوا في 1948، غالبيتهم مسلمون ومنهم دروز ومسيحيون. ويحق لهم التصويت في “الكنيست” ( البرلمان الإسرائيلي)، وهناك 12 نائبًا منهم، من أصل 120 نائبًا. وفي حكم مدوِّ صدر في تموز عام 2000، اعترفت المحكمة العليا بأن الأقلية العربية تعاني من التمييز، وخاصة في مجال التوظيف. ولا يخدم “عرب 48” في الجيش والمؤسسات العسكرية باستثناء الدروز.

في الوقت الذي ازداد وعي عرب إسرائيل لحقوقهم المدنية والإنسانية كمواطنين داخل إسرائيل، ازداد أيضاً الوعي الوطني والقومي بسبب مجموعة من العوامل بعد عام 1967. وجرت هاتان العمليتان طوال فترة السبعينات على نحو متواز تقريباً، أي الأسرلة (نسبة إلى إسرائيل) في مقابل الفلسطنة (نسبة إلى فلسطين). وقد حاول عرب إسرائيل الحفاظ على توازن بين هذين الانتماءين المتناقضين عن طريق تبني شعار المساواة داخل إسرائيل والدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، وعلى أساس ان هذا ما يحفظ التوازن بين الانتماءين.

ولم تكن سياسة إسرائيل موجهة لإخضاع عرب 1948 بقوة الذراع وحدها، وإنما للسيطرة عليهم من خلال بناء هويتهم الإنسانية والوطنية الجماعية بطريقة تكون منقطعة وغير متناسبة مع المجتمع الفلسطيني الأوسع وتطلعاته القومية. وقد وصف ذلك الأمر ايان لوستيك، الباحث في العلوم السياسية، بأنه الفصل، على طريقة فرّق تسد، التي أكثرت الدول الإمبريالية استخدامها في مطلع القرن العشرين، والتي تلجأ إليها دول كثيرة اليوم أيضا خدمة لمصالح.

لم يعرّف عرب 1948 كإسرائيليين (ففي إسرائيل يذكر في بطاقة الهوية اسم الدين وليس القومية أو الأصل الاثني) بالطريقة نفسها التي أمكن لليهود فيها ان يصبحوا إسرائيليين، وليس كفلسطينيين. إلا أن المواطنة الإسرائيلية جمعت اليهود والعرب بالمفهوم المدني، بتمكينها العرب من الحصول على حصة محدودة من »الموارد والعقارات المشتركة« والفوز بشيء من حقوقهم المدنية. لكنهم اضطروا للتخلي عن أية هوية أو حق قومي أو اثني لهم أو عن فرصة العضوية الكاملة »في المجموع«، أي في الدائرة الإنسانية والاجتماعية المحيطة بهم. وجاء قانون العودة العنصري، ليمنح حق الهجرة والمواطنة لأي يهودي حيثما كان، وحوّل جميع يهود العالم إلى مواطنين إسرائيليين محتملين بالقوة، ليعكس مكانة اليهود كأعضاء تلقائيين منتسبين إلى الجماعة الإسرائيلية، وكذلك استمرار عمل منظمات لا تعدّ رسمياً جزءاً من الدولة بل تنتمي إلى (الشعب اليهودي) أو الهستدروت الصهيونية، مثل الوكالة اليهودية وصندوق أراضي إسرائيل، إذ قدمت هاتان المؤسستان الامتيازات والحقوق لليهود فقط .

ظلَّ "فلسطينيو 48" حاضرين في الكثير من الأحداث المهمة والمفصلية التي شهدتها البلاد منذ بداية الاحتلال، فقد شاركوا في يوم الأرض عام 1976، وأثبتوا حضورهم في الانتفاضة الأولى عام 1987، ثم انتفاضة الأقصى عام 2000، ثم انتفاضة القدس بين عامَيْ 2015-2017، مُثبتين بذلك أنهم قوة حقيقية لا تتجزَّأ من نسيج الشعب الفلسطيني، سواء في الضفة، أو في غزة، أو في الشتات رغم استثنائه من الاتفاقيات التي وقَّعتها دولة الاحتلال مع منظمة التحرير الفلسطينية.

ثمَّ أتت المفاجأة السعيدة للشعب الفلسطيني في مواجهات رمضان الماضي، حين أشعلت أزمة حي الشيخ جراح المواجهات مع قوات الاحتلال من جديد، وما لبثت هذه المواجهات أن انتقلت إلى غزة، ومنها إلى الداخل الفلسطيني المحتل، إذ انطلقت المظاهرات خصوصا بعد قمع قوات الاحتلال لسكان القدس في ليلة القدر. وعلى عكس ما كان مُتوقَّعا، عَكَسَ تحرُّك الشباب الفلسطيني في الداخل تنظيما مُحكَما للحراك الشعبي، إذ لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في الشق التنظيمي، وتجاوز المحتجون الخطوط الحمراء الإسرائيلية التي لا يتجاوزها السياسيون التقليديون عادة.

تميَّزت هذه "الهبة" عن غيرها بمُدتها التي وصلت إلى ثلاثة أسابيع، مما خلق نوعا من الخوف داخل إسرائيل، فلم تتأخَّر في طلب يد المساعدة من المستوطنين الذي قَدِموا من مناطق مختلفة لقمع الحراك بالدم والحدود هذه المرة. فقد كشفت بعض المصادر عن تزويد القوات الإسرائيلية المستوطنين بخرائط ومعلومات تُشير إلى منازل العرب كي يستهدفوها ويعتدوا على سكانها، كما أظهرت التسجيلات اقتحام المستوطنين عدة منازل للعرب ممن لم يشاركوا في الحراك أصلا، كما سجَّلت صور أخرى أن المستوطنين اتخذوا من بلدة "اللُد" مركزا لتحرُّكات عصابات المستوطنين.

دفعت هذه المواجهات الحكومة الإسرائيلية إلى محاولة إيقاف الحرب على غزة خوفا من فقدانها السيطرة على الداخل المحتل، الذي واصل الغليان مع كل اعتداء أو مواجهات جديدة بين المستوطنين والسكان العرب، وبعد انتهاء العدوان مباشرة، أطلقت الشرطة الإسرائيلية العنان لحملة اعتقالات موسَّعة طالت الشباب الذي شارك في المظاهرات.

إن هذا الفشل الإسرائيلي في التهويد بالجليل ومناطق أخرى، بحسب ما أفادت به صحيفة "هآرتس"، يكمُن في تناقضات السياسة الإسرائيلية التي حاولت تسويق "الأسرلة" للفلسطينيين كأنها تبيع الهواء لهم، إذ إن سياساتها الداخلية تلك تتعارض أساسا مع حقيقة رفض الداخل الإسرائيلي نفسه للآخر غير اليهودي، حتى حين يقبل بالشروط المفروضة عليه ويبتلع سياسة "الأسرلة" غير المقنعة. فالنتيجة في الأخير هي أن "العربي الإسرائيلي" يتلقَّى نصف أجر اليهودي، ويسكن في أحياء مُنعزلة تطغى عليها الجريمة والعنف وتفتقر إلى الأمان الشخصي. وحتى إن تقبَّل كل هذا، فسيخرج قانون القومية مذكِّرا إياه بأنه ليس يهوديا، وأن أحدا من مواطني الدرجة الأولى (اليهود) لا يرغب حقيقة في وجوده. ولعل العمليات الأخيرة التي عرفتها المناطق الداخلية قد قطعت الشك باليقين في مسألة مشروع "التهويد والأسرلة"، الذي لم يكن سوى أسطورة طرحتها دولة الاحتلال ولم يُصدِّقها أحد، وها هي سلطات الاحتلال تعود من جديد لنسف رواياتها التي ابتدعتها.

أما عن دور عرب 48 في الكنيست والانتخابات في التسعينات، دخل الكنيست خمسة أحزاب/قوائم عربية منها قوائم ممثَّلة بشخص أو شخصين، تميزت إجمالًا بتبني خطاب وطني يشدِّد على الهوية والانتماء الفلسطيني من جهة، ويتبنى خطاب المواطنة والحقوق ويشدِّد عليه من جهة أخرى. وأدى تزايد الأحزاب والقوائم إلى تزايد الصراعات والمناكفات بين الأحزاب بسبب التنازع على مخزون الأصوات العربية. وظلَّت الأحزاب التي تشكَّلت ونشطت في التسعينات تُشكِّل قاعدة العمل السياسي في الداخل، ومع رفع العتبة الانتخابية في 2013 تحالفت هذه الأحزاب جميعها في القائمة المشتركة التي حصلت في انتخابات 2015 على 13 مقعدًا، وعلى ذات العدد في انتخابات 2019 ثم رفعت عدد مقاعدها إلى 15 في انتخابات 2020. ومع انسحاب القائمة الموحدة التي تمثل التيار الجنوبي للحركة الإسلامية تراجعت القائمة المشتركة إلى 6 مقاعد، وذلك بعد أن أعلنت القائمة الموحدة، ورئيسها منصور عباس، عن تبنِّيها "النهج الجديد" الذي يقوم على التنازل عن الخطاب القومي والانقطاع عنه، مقابل التركيز فقط على الشؤون المطلبية والحياتية المرتبطة بالمواطنة في الداخل.

التزمت الأحزاب والحركات السياسية في الداخل بغالبها بالعمل وفق حدود "الخط الأخضر"، وطورت مشاريعها النضالية على أساس التزامها هذا، واعتُبر الخط الأخضر في هذا السياق بمنزلة حدود جيوسياسية صلبة تفصل بين فلسطينيي 48 وبقية الشعب الفلسطيني وتحدد إطار العمل ووجهته لفلسطينيي الداخل تحت مظلة النظام القائم الإسرائيلي في حدوده. وعلى ضوء ذلك المحدِد تطورت المشاريع السياسية والنضالية في الداخل على أساس سلمي وعلى أساس المواطنة من خلال الانخراط باللعبة السياسية التي حددتها القوانين الإسرائيلية، وانطلاقًا من حقل المواطنة مع السعي إلى تغييرها. ومنذ التسعينات، يمكن أن نلحظ المزاوجة الخطابية المثابرة بين الهوية الفلسطينية من جهة، والمواطنة المتساوية من جهة أخرى. هذه المزاوجة التي ظهرت براعمها في خطاب "حركة الأرض" وعادت وطرحته القائمة التقدمية، وصل إلى ذروته مع طرح "التجمع الوطني الديمقراطي" لشعار "دولة جميع مواطنيها" والذي تحول وبصيغ مختلفة لخطاب الأحزاب العربية في الكنيست.

برلمانيًّا، بدأ يتراجع بشكل مطَّرد أيضًا تصويت الفلسطينيين في الداخل للانتخابات البرلمانية وانخفض التصويت من 79% في 1996 إلى أقل من 45% في 2021. وكانت نسبة المشاركة تتأثر بالسلوك السياسي للأحزاب الفلسطينية من جهة ومنسوب التحريض من جهة أخرى؛ إذ إن تشكيل القائمة المشتركة أدى إلى ارتفاع نسبة التصويت من 53.6% في 2009 إلى 57.3% في 2013، ثم إلى 64% في 2015 و65% في 2020، لكنها مع تفكك المشتركة وما رافقها من صراع وتحريض داخلي وصلت إلى 45% وهي أقل نسبة منذ عشرات السنين، وتدل على تراجع كبير في الثقة بالأحزاب العربية القائمة والعمل البرلماني معًا.

وقد كتب الباحث سعيد زيداني حول موضوع حقوق عرب 48 في الداخل: " إن غياب قضايا الفلسطينيين داخل إسرائيل عن مائدة مفاوضات السلام، هو من أعراض غيابهم وتهميشهم إسرائيلياً وفلسطينياً على حد سواء. وفي وضع من الغياب والتهميش، ينحسر إغراء المشاركة في الانتخابات المقبلة في إسرائيل، لكل من يضع المسائل الوطنية الأساسية على قمة جدول الأعمال والاهتمام. فلو تزامنت الانتخابات مع الحكم الذاتي للفلسطينيين داخل إسرائيل، لهرعتُ إلى صندوق الاقتراع من دون أدنى تردد أو وجل".

الخلاصة

تطور عرب إسرائيل، على مدى الأعوام الأربعين الأخيرة، من مجموعة غير منظورة معدومة الهوية ومعرضة لطمس فلسطينيتها، إلى شريحة دينامية نشيطة وواعية من شرائح الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من عزلتهم الجغرافية عن بقية الشتات الفلسطيني، بل عن العالم العربي أيضاً، خلال العشرين عاماً الأولى من الحكم الإسرائيلي، فقد ارتبطوا برباط وثيق لا فكاك منه بالمد والجزر في السياسة الفلسطينية. وسرعان ما انعكس تركيب القوى الإقليمية على مواقفهم وتنظيماتهم السياسية الخاصة. فهم، من الناحية السيكولوجية، قد تغلبوا على اضطرابهم بسبب هويتهم الفلسطينية. لقد بدأوا يتحدون علناً، وبافتخار، الحملة الإسرائيلية لقمع هذه "الفلسطينية" وطمسها، بل إنهم جعلوا من فلسطينيتهم محوراً لسلوكهم السياسي واهتماماتهم الثقافية وهويتهم الجماعية. ومن سخرية الأقدار أن ثقتهم بأنفسهم تستمد وقودها من الإحساس بالأمان، الذي يمنحه وضعهم كمواطنين إسرائيليين، إلى جانب مساواتهم الرسمية أمام القانون الإسرائيلي.

*رئيس جامعة القدس المفتوحة فرع بيت لحم