الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

رواية الحياة كما ينبغي للدكتور أحمد رفيق عوض

نشر بتاريخ: 14/11/2022 ( آخر تحديث: 14/11/2022 الساعة: 11:17 )

الكاتب: د. محمد بنات

عُرف الدكتور عوض بوصف كاتبًا متمرّسًا للرّواية على اختلاف أنواعها، واعتاد أن يفاجئنا كثيرًا بإبداعاته التي لا يُشقُّ له فيها غبار، وهذا ديدنه في معظم الأعمال الّتي قدّمتها لنا عبر رحلته في الكتابة التي امتدّت لآماد بعيدة وحقب مديدة، ولا عجب والحالة هذه أن يقدّم لنا الكاتب دائمًا كلّ جديد في فعل الكتابة، عبر أسلوب مثير شائق، تنسجم فيه الوشائج والعلائق في الحبكة الرّوائية الّتي يصاحبها نفس طويل في السّرد والتّوصيف، وهذا ما يدفعنا جميعًا إلى تلقّف أعماله، والعكوف على قراءتها بنهم، وبخاصَّة أنّ أعماله جميعًا تتناول مشكلات العصر، وتؤرّخ للحالة الفلسطينيَّة الرّاهنة، على نحو ما جاءت به روايته الأخيرة "الحياة كما ينبغي"، عبر عنوانها المستفزّ الذي يثير الوعي لدى المُتلقّي، ويدفعه في الوقت نفسه إلى طرح تساؤلات عديدة حوله، وهذا ما يجعل فضاء النّص مفتوحًا على مصراعيه تحليلا وتفسيرًا وتأويلا.

قبل استعراض هذه الرواية التي تنتمي إلى فن أدب المقاومة الذي رسم خطوطه الأولى الأديب الفلسطيني غسان كنفاني عام 1948، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ رواية الأديب أحمد رفيق عوض "الحياة كما ينبغي" أشبه برغيف خبز فلسطيني طازج خرج من الطابون للتو، يعبق برائحته الطيبة المعروفة، تتلمسه اليد بحذر لسخونته التي تنمّ عن طزاجته وحداثته، وهكذا هي رواية عوض؛ انغماس متجذّر في البيئة الفلسطينية القرويّة الزراعيّة، يسري في تفاصيل أماكنها آخر ما استجد من الفعل الثوري المقاوم.

يضعنا أحمد رفيق عوض في هذه الرّواية أمام لوحة فنيّة ذهنيّة، تزيّنها ثلاث وعشرون شجرة ونبتة، ترخي بظلالها وروائحها وجمالها على فصول الرواية الثلاثة والعشرين، وهذه الأشجار لا تحضر عبثا أو لمجرّد الزينة، فهي جزء لا يتجزأ من الفعل الثوري الفلسطيني، فتحتها يختبئ الثائر، وهي المصدر الذي يمدّه بالطعام أثناء المطاردة، والحارس لبيته، كما أنّ هذه الأشجار لا تقتصر على ما اعتاد الفلسطيني زراعته في أرضه منذ مئات السنين، بل نرى أشجارا حديثة العهد في هذه البيئة، في دلالة على حبّ الفلسطيني للتجدد والتواصل مع تجارب الشعوب الحرّة الأخرى واقتفائها.

تتمحور أحداث الروايّة حول شخصيّة الثائر الفلسطيني راشد المحمود ابن بلدة يعبد غرب مدينة جنين، شاب يافع لم يتجاوز الثلاثين ربيعا، تخرّج في الجامعة، وكالكثير من أبناء بلده لم يعثر على وظيفة، فقرر العمل في شركة تجارية كموزع بضائع في مركبة تجوب محافظة جنين بمختلف حارات مدينتها وقراها.

راشد شاب متمرّد على كل ما فيه ظلم وإكراه، تزوّج ابنة جيرانهم نزولا عند رغبة والديه وليس عن قناعة منه، بدأ مشواره النضالي عندما رفض ممارسات جنود الاحتلال على حاجز الحمرا الواصل بين مدينتي أريحا وجنين أثناء عبوره بمركبته التجارية هناك، فعندما أيقن بأنّ جنود الاحتلال يقومون بتعطيل المركبات كعقاب جماعيّ متعمّد، أطلق بوق مركبته احتجاجا على تصرفهم المذل هذا، لكن دون جدوى، فقرر التوجه إلى الجنود في الحاجز وتوبيخهم، لكن ردة فعلهم كانت أضعاف فعل راشد؛ إذ أطلقوا نيران بنادقهم على قدمه، فسقط على الأرض مضرجّا بدمائه، وحتى يكملوا أركان جريمتهم قاموا بوضع سكين قربه، ليتهم في المحكمة بمحاولة الشروع بالقتل، وليحكم خمس سنوات بالسجن الفعلي في معتقل النقب الصّحراوي.

في سرد عوض لتفاصيل حياة راشد تعمّد أن يأتي على ذكر زواجه من ابنة جارهم حفّار القبور نزولا عند رغبة والديه لا رغبته هو، فعوض بذلك ينقل لنا الواقع الفلسطيني بحقيقته الموضوعية، هادفا إلى إلقاء الضوء على قضية لطالما استغلها الاحتلال لتشويه ثورة هذا الشّعب، فالدعاية الإسرائيلية ترجع نضالات الفلسطيني إلى ردَّات فعل ناتجة عن واقع اجتماعي صعب يؤدي إلى أزمات نفسيّة عصيّة على العلاج، فيقرر على أثرها التخلص من واقعه هذا بمهاجمة الاحتلال بهدف الأسر أو الاستشهاد، لكن ذكاء الراوي في سرد هذه التفاصيل الموضوعيّة وكأني به جاءت لتنفي هذا الادعاء الباطل، فأي إنسان على هذه البسيطة لا يعايش مشاكل اجتماعية ويمر بأزمات نفسية صعبة؟! فهذه طبيعة البشر في كل زمان ومكان، والفلسطيني بحكم واقعه الصعب تحت الاحتلال هو الأكثر حكمة في معالجة هذه القضايا، فراشد تزوج سامية وأنجب منها، ولو كان يريد الهروب من هذا الزواج وهو الشاب المتمرّد لاستطاع ذلك بأبسط السبل، لكنه تقبّل الأمر وتعايش معه، لكنّه عندما اصطدم بعنجهية الاحتلال على حاجز الحمرا، لم يجد سوى حلا واحدا هو مواجهة هؤلاء الجنود مهما كلّف الأمر؛ لقد استطاع عوض بلغته الفنيّة الاحترافية السلسة الهادئة إقناع القارئ بأنّ لا علاقة بين الأمرين.

ننتقل عبر فصول رواية عوض دون كلل أو ملل، فعنصر التشويق طاغ منذ الفصل الأول حتى النّهاية المفتوحة، نتابع مشوار راشد الثوري في أدق تفاصيله، نحاول أن نشارك الراوي هذه التفاصيل، فمرة نصيب ومرّة نجد إبداعه الخلاق يذهب بنا إلى ما لم يخطر ببالنا، فيتضاعف شغف القراءة والتأمّل.

كان السجن بالنسبة لراشد نقطة تحوّل لتطوير عمله النضالي، فاستعان لتحقيق هذا الأمر برفيقين من منطقته ينتميان إلى تنظيمين مختلفين، أحدهما ديني راديكالي والآخر علماني، أما راشد فقرر أن يظل مقاوما مستقلا لا يخضع لتنظيم بعينه، وفي هذا دلالة واضحة على أن الشعب الفلسطيني بمختلف أطيافه شعب مقاوم، والقواسم المشتركة التي يتقاطع معها في العمل النضالي أقوى من كل التنظيمات والأحزاب.

شرع راشد ينفّذ ما اتفق عليه مع رفيقيه بعد خروجه من السجن؛ استهداف دوريّة عسكريّة قرب حاجز في سهل عرّابة، سارت خطة التنفيذ كيفما اتفقوا، لكنّ السحب الكثيفة والأمطار حالت دون إكمال مسار الخطة إلى الّنهاية، فبعد أن نفّذ راشد هجومه الذي نتج عنه مصرع ضابط إسرائيلي كبير، وبدأ بالانسحاب من المكان، لم يتمكن بفعل المطر والسحب من العودة إلى السيارة التي تنتظره على بعد مئة متر، فقرر أن ينسحب إلى مكان ما في سهل عرّابة قرب شجرة زعرور، حيث أمضى ليلة صعبة للغاية محفوفة بالكثير من المخاطر، وهنا يعيش راشد في صراع داخلي متصاعد بين المضي في التخفي بعيدا عن النّاس؛ إذ رأى في ذلك أفضل وسيلة لتجنب أخطاء الآخرين الذي كانوا ضحايا استهتارهم، أو اللجوء إلى مخبأ موثوق لدى بعض الأصدقاء والمعارف الذين لا يريد تحميلهم وزر فعله الثوري الذي سيترتب عليه الكثير من المعاناة بفعل سياسات الاحتلال الظالمة، فتتدخل العناية الإلهية لدى أبي محمد ابن عرابة البار، والد الشهيد المغدور محمّد، فكان بمثابة الأب والسّند؛ إذ آواه في مخزن بيته ليلة كاملة، لينقله في صباح اليوم التالي إلى مخيم جنين قلعة الأبطال بناء على طلبه وفق خطة محكمة.

إن تغيّر مسار الخطة بفعل المطر والسحب، وعثور أبي محمد على راشد في سهل عرابة، وتخليصه من صراعه المتقد في اتخاذ قرار يمكنّه من الابتعاد عن أنظار عدوه، كلها أحداث أراد الكاتب من خلالها أن يظهر لنا تدخل العناية الإلهية لحماية الإنسان الثائر صاحب القضية العادلة، وهذه العناية تتحقق فعلا عندما يأخذ الثائر بأسباب النجاة، بعيدا عن الاستهتار واللامبالاة، وهو أمر في غاية الأهميّة سلّط الراوي الضوء عليه حتى يستخلص كل مقاوم العبر من أخطاء الماضي، وما ترتب عليها من نتائج مدمرة، كذلك فإن اختيار راشد لمخيم جنين كملجأ آمن فكرة صائبة، فهذا المخيم بات اليوم ثكنة عسكريّة نضالية عصيّة على الانكسار. أما أبو محمد ودوره الوطنيّ الشجاع مع راشد فيعكس أكثر من صورة؛ فجميع أبناء الشعب الفلسطيني قد ذاقوا الويلات من هذا الاحتلال الغاشم، فالمعاناة واحدة؛ لذا تجدهم مستعدين للتضحية عندما يتطلب الأمر -كحالة راشد- مهما كلف الأمر، فإيمانهم بالله حاضر بقوّة، فهو الحامي والمنجّي، ولا مكان للخوف في مثل هذا الظرف، كذلك فإنّ كل المماحكات التقليدية بين أهل يعبد وعرابة تصبح مادة للتندر أمام الهم الوطني العام.

يقابل راشد في هذه الرواية عدوّه المتجسّد في شخصيّة أبي السعيد كابتن المخابرات المكلّف بمهمة الوصول إلى منفّذ عملية حاجز "دوتان"، أبو السعيد يهودي شرقي خدم في أكثر من منطقة في الضفة الغربية، فصار على احتكاك مباشر بالحياة الفلسطينيّة بمختلف أنماطها فأعجب بها، لكنّه لا يستطيع إظهار هذا الإعجاب إلا في السر في بيت ابنه زلمان، فطبيعة عمله تمنعه من إبداء أي تعاطف أو إعجاب بهذا الشعب، كذلك فإن زوجته الاشكنازية العنصرية كانت له بالمرصاد في هذا الشأن. أبو السعيد رغم ما يقوم به من مطاردة الفلسطينيين واعتقالهم والتحقيق معهم، وتعذيبهم، إلا أنه لا يرى جدوى من هذا كله، ففي يقينه استقرّ أن هذا الشعب صاحب قضيّة ولن تجدي معه كل الأساليب القمعية التي يمارسها الاحتلال ضده، يعبّر عن عدم جدوى هذه الممارسات أمام قادته، لكنه يقابل بالاستهزاء والسخريّة، يوصل الليل بالنهار للوصول إلى منفذ العمليّة، فهو على استعداد لتعذيب بلد كامل من أجل الوصول إلى هدفه؛ لإرضاء قادته، لقد استطاع حصر دائرة الهدف في بيت أبو راشد المحمود لكن هيهات أن يصل إلى راشد المتحصّن في قلعة مخيم جنين، فكل ممارساته القمعية تجاه والد راشد وأمه المرأة المريضة التي تتعكز على عكاز اشتراه لها راشد من البلدة القديمة في نابلس، إلا أنه فشل في كسر إرادتهم في الصمود والتحدي، لم يغفر لأبي السعيد كل ما يبذله لخدمة قادته ودولته، فها هو يقع ضحية مؤامرة محكمة دبرتها لها زوجته والمتعاونون معها من هؤلاء القادة بعد أن اكتشفت خيانته لها مع نساء أخريات، فيقرر قتلها ومن ثم الانتحار، وهذا ما حدث بالفعل في نهاية الرواية، قبل أن يتمكّن من الوصول إلى راشد.

استطاع عوض أن يتغلغل إلى أعماق النفس الإسرائيليّة من خلال شخصيّة أبي السّعيد التي جسدت حقيقة المجتمع الإسرائيلي المفكك من الداخل، تتناهشه صراعات على مختلف الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... نتيجة تركيبة هذا المجتمع المكونة من أعراق وجنسيات مختلفة، كذلك فإن هذا العدو في صراعه مع الفلسطينيين يقع خارج منظومة الأخلاق؛ لذا فإنّ منطق الأشياء يحتم عليه الفشل الملازم لكل ما يمارسه من بطش وظلم، في حين نجد راشدًا مازال خارج سيطرة العدو وسيظل يقاوم حتى النفس الأخير، ليسلم الراية للأجيال القادمة إن تطلّب الأمر.

وعوض في روايته يهتم بتسلّيط الضوء على ظاهرة التلاحم والتعاضد بين أبناء الشعب الفلسطيني بصورة مباشرة أو بالرمز والتلميح، فهذا أبو محمد خير معين وسند لراشد حين تخفّى عن أعين الاحتلال بعد تنفيذ عمليته قرب حاجز "دوتان"، أما عكاز والدته المريضة فقد تردد قوله عن شرائه لها من نابلس ثلاث مرات في مواقع مختلفة من الرواية، وكأنه يرمز بذلك إلى أنّ نابلس جبل النار هي الرافعة والعون لجنين عندما تشتد المعركة، أما زيد ابن أم فرحات التي استشهد ثلاثة من أبنائها في مخيم جنين، فقد شارك جميع أهل المخيم في بناء بيت لهم بعد أن هدم الاحتلال بيتهم، كذلك فقد ساهم الجميع في إتمام حفل زفافه وكأنه ابن لكل أهل المخيّم.