السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

حوار المذاهب الإسلامية بين التقريب والتعايش

نشر بتاريخ: 26/11/2022 ( آخر تحديث: 26/11/2022 الساعة: 15:03 )

الكاتب:

د. وليد القططي

أطلق شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب مبادرةً للحوار بين المذاهب الإسلامية في مطلع شهر تشرين الثاني نوفمبر الحالي أثناء انعقاد (مُلتقى البحرين للحوار) في المنامة، دعا فيها: "علماء الدين الإسلامي كله على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ومدارسهم إلى المسارعة بعقد حوار إسلامي – إسلامي جاد من أجل إقرار الوحدة والتقارب والتعارف، تُنبذ فيه أسباب الفُرقة والفتنة والنزاع الطائفي على وجه الخصوص."، وخصَّ بالمبادرة التقارب بين السُنّة والشيعة فقال: "هذه الدعوة إذ أتوّجه بها إلى إخوتنا من المسلمين الشيعة، فإنني على استعداد ومعي كبار علماء الأزهر ومجلس حكماء المسلمين، لعقد مثل هذا الاجتماع بقلوبٍ مفتوحة وأيدٍ ممدودة للجلوس معاً على مائدةٍ واحدة". وقد ردَّ عليه مُرحّباً بالمبادرة الدكتور حميد شهرياري الأمين العام لـ (المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية)، ومُبدياً استعداده للحوار لتحقيق فكرة التقريب.

الدعوة للحوار بين المذاهب الإسلامية بين جناحي الأمة – السُنّة والشيعة – لتحقيق فكرة (التقريب) تحت عنوان (أمة إسلامية واحدة) دعوة قديمة مُتجددة، وُلدت استجابةً لتحديين واجها الأمة الإسلامية، أحدهما تحدٍ خارجي يتمثل في المشروع الاستعماري الغربي المُهدِد لوحدة الأمة الإسلامية عبر إسقاط نظام (الخلافة الإسلامية) وتجزئة بلاد المسلمين. والآخر تحدٍ داخلي يتمثل في تزايد التباعد والتعصب بين المذاهب الإسلامية المُهدِد لوحدة الأمة الإسلامية عبر إسقاط مفهوم (الأمة الإسلامية) وتفرقة شعوب المسلمين. فكانت فكرة (التقريب) الوجه الآخر لفكرة (الجامعة الإسلامية) وامتداداً لها في مواجهة التجزئة الخارجية والتفرقةالداخلية، وكان الأزهر ولا يزال رائداً في احتضان الفكرة عبر علمائه وشيوخه الذين ساهموا في تأسيس وتفعيل مؤسسة (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية) في القاهرة عام 1947م، وظلّت الفكرة حاضرة في الأزهر حتى بعد إغلاق الدار رسمياً في عهد السادات عام 1979م، رغم ضجيج التحريض المذهبي الأسود عند المتعصبين من الطرفين، وحمل لواء التقريب إلى جانب الأزهر (المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية) في طهران، الذي أُسس عام 1990م على عين إيران الفكرة والثورة والدولة.

رغم صوابيه فكرة التقريب وسمو هدف التقريب، فهي فكرة لا زالت غير واضحة، وهدف غير واقعي، فالمفهوم المرتبط بفكرة(التقريب) يُشير إلى تنازل كل مذهب عن بعض آرائه وقناعاته ومعتقداته في العقيدة والفقه والفكر للالتقاء في نقطة الوسط، وهذا كهدف غير قابل للتطبيق وغير ممكن الإنجاز، ودون تطبيقه وإنجازه جبال من العوائق العقيدية والفقهية والفكرية والسياسية والنفسية، راسخة في العقل والقلب والنفس والتاريخ والسياسة، وهذا ما أثبتته التجارب التاريخية المعاصرة، والأقرب وضوحاً وهدفاً فكرة (التعايش)، بمعنى أنْ يعيش المسلمون على اختلاف مذاهبهم وفرقهم كأفراد وجماعات ومجتمعات وشعوب ودول مع بعضهم البعض وإلى جانب بعضهم البعض بأمن وسلام واستقرار وطمأنينة، في جو من التفاهم والتوافق والتعاون، وبأي شكل من الوحدة كأمة إسلامية واحدة بدون صراع وتناحر وقتال، وبأسلوب التعايش السلمي غير مُلزمين فيه للتنازل عن مذاهبهم والذوبان في الآخر، ولكنهم مُلزمون باحترام الرموز الدينية والحفاظ على الأصول الإسلامية، وتقديم الانتماء للأمة الإسلامية على الجماعة المذهبية، وعدم تضخيم الذات الجمعيةالمذهبية (الفرقة أو الطائفة) على حساب الذات الجمعيةالإسلامية (الشعب أو الأمة).

ومفهوم (التعايش) يقوم على أساس إحالة الفصل في الخلافات الراسخة بين الفرق والمذاهب إلى الله تعالى ليحكم بين الناس يوم القيامة كما قال تعالى: " فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ"، والتعامل مع خلافات صدر الإسلام وفق منهجيةقرآنية عمادها قوله تعالى: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، لينشغل المسلمون المعاصرون في إعمار دنياهم كطريقٍ لإعمار آخرتهم، ولا تعمر دنياهم إلاّ بوحدتهم كأمة، والوحدة تبدأ بالتعايش وفق منهجية الالتقاء على (الكلمة السواء) المذكورة في قوله تعالى: "تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ" تجمع الأمة على الأصول الموّحِدة والقواسم المشتركة، التي أكد عليها المفكر الشهيد فتحي الشقاقي في دراسته المنشورة في مجلة (الطليعة الإسلامية) عام 1982م بعنوان (السُنّة والشيعة.. ضجة مفتعلة ومؤسفة) مُشيراً إلى جماعة التقريب في القاهرة: "لقد اتفقوا على أنَّ المسلم هو من يعتقد بالله رباً وبمحمد نبياً ورسولا لا نبي ولا رسول بعده، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة وبيتاً محجوبا، وبالأركان الخمسة المعروفة، وبالإيمان بالبعث وبالعلم بما هو ضروري في الدين". وبذلك تكون الأصول الموّحِدة التي تؤسس لقاعدة (التعايش) هي: الانتماء للدين الإسلامي والأمة الإسلامية، وعبادة الله الأحد واتباع الرسول الخاتم، والتسليم بالقرآن والسُنّة مصدراً أساسياً للإسلام والتشريع، والإيمان بأركان الإيمان والإسلام، ووحدة العبادات وأصول المعاملات، وقبلة الصلاة الواحدة (مكة)، وقبلة الجهاد الواحدة (القدس)، والقضية المركزية الواحدة (فلسطين).

وفي إطار التعايش بين المذاهب الإسلامية قدّم الشيخ محمد الغزالي كأحد علماء الأزهر مبادرة للتقارب والوحدة بين السُنّة والشيعة تحت عنوان (مبادئ على طريق التصالح والإخاء) في كتابه (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين) في الربع الأخير من القرن العشرين، والمبادرة تتكون من أربعة بنود، البند الأول يؤكد على الاتفاق على أن " أنَّ القرآن الكريم هو كتاب الإسلام المصون الخالد والمصدر الأول للتشريع، وأنَّ الله حفظه من الزيادة والنقص وكل أنواع التحريف". والبند الثاني يؤكد الاتفاق على "أنَّ السُنّة هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، والرسول أسوة حسنة لاتباعه إلى قيام الساعة، والاختلاف في ثبوت سُنّة ما أو عدم ثبوتها مسألة فرعية". والبند الثالث يؤكد على أنَّ "ما وقع من خلاف في القرن الأول يُدرس في إطار البحث العلمي والعبرة التاريخية، ولا يُسمح بامتداده إلى حاضر المسلمين ومستقبلهم، بل يُجمّد من الناحية العملية تجميداً تاماً ويُترك حسابه على الله". والبند الرابع يخص المستقبل وفيه "يواجه المسلمون جميعاً مستقبلهم على أساس من دعم الأصول المشتركة – وهي كثيرة جداً – وعلى مرونة وتسامح في شتى الفروع الفقهية، ووجهات النظر المذهبية الأخرى".

المبادئ التي وضعها الشيخ محمد الغزالي على طريق التصالح والإخاء والتعايش بين السُنّة والشيعة إيماناً بوحدة الأمة الإسلامية؛ تتطلب السعي نحو تحقيق شرطين، الأول: إزالة كل أشكال التباعد والصراع بين المذاهب الإسلامية، وكل ما يؤديإليهما، مثل: الجهل والتعصب والتطرف والقطيعة والجمود والانغلاق والتعدي على الرموز الدينية... والثاني: إيجاد كل أشكال التقارب والتعايش بين المذاهب الإسلامية، وكل ما يؤدي إليهما، مثل: العلم والتسامح والاعتدال والتواصل والمرونة والانفتاح واحترام الرموز الدينية... ويبقى جوهر فكرة تعايش أهل القبلة هي (قاعدة المنار الذهبية) للسيد رشيد رضا، وهي: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، وقبل التعاون والإِعذار وبعدهما لا بد من الحوار نهجاً للتعارف والتقارب والتعايش.