السبت: 12/07/2025 بتوقيت القدس الشريف

مؤتمر فيّنا خطوة في الاتجاه الصحيح

نشر بتاريخ: 11/07/2025 ( آخر تحديث: 11/07/2025 الساعة: 14:54 )

الكاتب:

د. محمد عودة
ولادة جبهة عالمية لمناهضة الصهيونية من رحم المؤتمر اليهودي الاول المناهض للصهيونية الذي عُقد منتصف حزيران الماضي في العاصمة النمساوية فيينا بمبادرة من منظّمة "من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في فلسطين"، وهي منظّمةٌ نمساويةٌ معروفةٌ بمواقفها المناهضة للصهيونية والإمبريالية، وتعتبر نفسها جزءًا من حركات التحرر العالمية، إضافة الى نشطاء ومثقفين وقادة ٌ يهود، ونمساويون بالتنسيق مع شخصياتٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ كما شاركت شبكاتٌ يهوديةٌ مناصرة لفلسطين، مثل "يهود أوروبا من أجل فلسطين"، و"يهود من أجل العدالة للفلسطينيين". كما دعمته منظماتٌ يهوديةٌ أخرى، مثل "صوت يهودي من أجل السلام"، و"يهود أوروبيون من أجل السلام"، و"الشبكة الدولية اليهودية المناهضة للصهيونية."
عنوان المؤتمر الجريء أثار العديد من التساؤلات بين المثقفين الفلسطينيين: هل من المجدي المشاركة في مؤتمر ينظمه يهود مناهضون للصهيونية؟ ألا يُفترض أن تكون مناهضة الصهيونية مسؤولية يهودية أخلاقية بالدرجة الأولى، تمامًا كما هي مسؤولية فلسطينية وجودية؟ وهل من الأفضل ترك المنصة لهؤلاء اليهود كي يعبّروا بأنفسهم عن رفضهم للمنظومة الصهيونية، بهدف التأثير في المجتمعات الغربية المتواطئة مع نظام الإبادة الصهيوني، والتي تخلط عمدًا بين العداء للسامية والنقد المشروع لإسرائيل؟ عبرت بعض الأصوات الفلسطينية عن خشيتها من أن تتحوّل هذه المبادرات إلى محاولة “احتواء” أو مصادرة صوت الفلسطينيين أنفسهم في ساحة التضامن العالمي. لكن ما لبث هذا التردد أن تراجع، بعدما تبيّن الطابع التحرري للمؤتمر وجرأته في مواجهة السرديات الغربية الرسمية.
لم يكن اختيار فيينا، مسقط رأس ثيودور هيرتزل، مؤسس الصهيونية العالمية مصادفة إذ ينعقد المؤتمر الأول لمناهضة المشروع الذي بدأ في هذه المدينة قبل أكثر من قرن، وفي نفس المدينة التي باتت شاهدة اليوم على تشكّل وعي جديد، يهودي وعالمي، ضد فظائع هذا المشروع، لقد شارك أكثر من 400 يهودي، من مختلف الأجيال والتوجهات والمهن، في هذا المؤتمر، رغم القيود والضغوط، كما شارك العشرات من غير اليهود. وكما روى المنظمون، فقد رفضت معظم القاعات في فيينا استضافة المؤتمر، ما اضطر المنظمين إلى قبوله في قاعة أفراح يمتلكها مواطنون من أصل تركي، قدموها مجانًا متحدّين حملات الترهيب.
لم تكن يوما حركة مناهضة الصهيونية اليهودية حكرًا على الفلسطينيين، فقد أنشأت حركة البوند الاشتراكية اليهودية في أوروبا الشرقية جبهة مناهضة شعبية للصهيونية، داعية إلى اندماج اليهود في مجتمعاتهم الوطنية، لا إلى إقامة كيان استيطاني في أرضٍ أخرى وقد اظهرت الدراسات أن الأغلبية الساحقة من يهود أوروبا الشرقية – حتى الثلاثينيات – لم تكن صهيونية، بل اعتبرت الصهيونية حركة رجعية، أو حتى كفراً كما رأى اليهود الأرثوذكس.
وللحقيقة والتاريخ فإن مئات الآلاف من اليهود الذين هاجروا من أوروبا لم يتجهوا نحو فلسطين، بل إلى الأميركيتين وبريطانيا وجنوب أفريقيا. وأن اليهود الذين قضوا في المحرقة النازية كانوا بمعظمهم غير صهيونيين. بل إن الغرب، بعد الحرب، رفض استقبال الناجين، ودفعهم قسرًا إلى فلسطين، لأنه أراد إسرائيل أن تكون مشروعًا وظيفيًا ضمن التوسع الإمبريالي الغربي.
من اهم أسباب انعقاد المؤتمر، الوحشية غير المسبوقة التي تمارسها إسرائيل في غزة، والتطهير العرقي في الضفة الغربية. هذه المذبحة، التي أحرجت حتى أنصار إسرائيل التقليديين في الغرب، لقد أسهم كل من شلال الدم في قطاع غزة خاصة الأطفال والنساء والنزعة السادية في قتل الناس جوعا في ايقاظ ضمائر كثير من اليهود خاصة من أبناء وأحفاد الناجين من الهولوكوست، رافضةً لهذا المشروع الاستعماري باسم الأخلاق والتاريخ. لقد انكشفت الصهيونية أمام جيل جديد من اليهود، ليس فقط كحركة استعمارية، بل كمشروع تهديد وجودي للقيم الإنسانية، ولليهود أنفسهم.
جاءت أهداف المؤتمر واضحة وجذرية، مؤكّدةً على رفض الصهيونية رفضًا جذريًا، باعتبارها حركةً عنصريةً استعماريةً، أيضًا؛ اعتبرت مقاومة القوانين والتشريعات التي تربط بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية هدفًا يهوديًا. كما سعت إلى بناء جبهةٍ يهوديةٍ عالميةٍ لمقاومة الاستعمار، والفصل العنصري، والاعتراف بالنكبة الفلسطينية، والعمل على إنهائها من خلال دعم حقّ العودة، وتفكيك النظام الصهيوني.
لقد أكد المؤتمرون أن معركتهم لا تقتصر على مناهضة الصهيونية فحسب، بل تتّسع لتشمل الحكومات الغربية المتواطئة معها، والنخب التي تدعم هذا النظام الكولونيالي في فلسطين. واستعاد المشاركون نموذج التعايش اليهودي – الإسلامي في الأندلس، وتجربة العيش المشترك في الدول العربية، كمصدر إلهام لرؤية ما بعد الصهيونية، كيان ديمقراطي عادل لجميع سكانه، من البحر إلى النهر.
وقد شدد البيان الختامي على ضرورة بناء حركة سياسية دولية مناهضة للصهيونية، تسعى لتحرير الفلسطينيين واليهود من هذا المشروع، وتحدي الروايات الرسمية المفروضة في الغرب. كما دعا إلى تشجيع المترددين من اليهود وغير اليهود، ممن تردعهم حملات القمع والرقابة، على الانخراط في هذا النضال الإنساني، واكد على ان الطريق طويل لكن لا عودة إلى الوراء.
لم يكن مؤتمر فيينا حدثًا عابرًا، بل محطة تأسيسية في تحوّل أعمق يشهده الرأي العام العالمي. إن تراجع هيبة الصهيونية في الغرب، وتآكل مكانة إسرائيل بصورة غير مسبوقة، وتشكّل حركة تحرر كونية تقاوم الظلم المنظّم – سواء في فلسطين أو في بقاع أخرى – كل ذلك يمثّل فرصة تاريخية، رغم كل الآلام.
قال المؤتمرون أنه لم يعد بالإمكان تجميل قبح الصهيونية أو تبرئتها من جرائمها، وأضافوا ان الصهيونية ومعها إسرائيل عبئًا أخلاقيًا على البشرية، لقد عبر المؤتمرون عن أملهم في انعتاق الأصوات المناهضة للصهيونية داخل إسرائيل والتي كبلها القمع والتضليل وحملات التخوين، أما الحركة المناهضة للصهيونية التي تتشكّل اليوم، فهي تسير في طريق طويل وشاق، لكنها انطلقت ولن تتراجع، وهي تحمل وعدًا بمستقبل إنساني حرّ وعادل، لفلسطين والعالم.
تكمن أهمّية المؤتمر باعتباره منعطفًا تاريخيًا في نضال الشعب الفلسطيني ضدّ الصهيونية. أهمّ ما في المؤتمر هو تفكيك احتكار الصهيونية لتمثّيل اليهود، ويعلن من قلب أوروبا، وبصوتٍ يهوديٍ أنّ الصهيونية لا تمثّلهم كما اسس لتحالف فلسطيني يهودي ضدّ الصهيونية، لقد شكل تحديًا مباشرًا للسردية الصهيونية، التي طالما احتكرت الحديث باسم اليهود، وطرح بديلًا جذريًا يربط بين مناهضة الاستعمار ومناهضة العنصرية، كما أعاد بناء التحالفات على أسس العدالة والتحرر.
هل نحن جاهزون لالتقاط الفكرة وتسويقها في الغرب؟ لعل تهمة معاداة السامية تقل حدتها وتسهم هذه الخطوة في إعادة الأمور الى نصابها وتصبح الصهيونية حركة عنصرية ضمن الأعراف الدولية كما كانت في الماضي. إن غدا لناظره قريب.