الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

إسرائيل تريدها سلطة ضعيفة وخاضعة

نشر بتاريخ: 15/01/2023 ( آخر تحديث: 15/01/2023 الساعة: 10:56 )

الكاتب: نهاد أبو غوش

يثور نقاش في أوساط دولية ومحلية عديدة حول ما تدفع إليه حكومة إسرائيل من انهيار شامل للسلطة، بسبب برنامجها المتطرف وسلوكها الأكثر تطرفا ووحشية، ومساعيها الواضحة لحسم الصراع على الأرض بالقوة المسلحة والحديد والنار والبلدوزرات وسائر إجراءات التهويد والاستيطان والقمع وقرصنة الأموال الفلسطينية، بقرارات أحادية تتخذها مؤسسات الاحتلال من دون مفاوضات وبمعزل عن أية قرارات دولية.

الواقع أن أطراف الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تتفق على موقف موحد تجاه السلطة، هناك من لا يمانع في حلها وتقويضها كما يعلن ذلك بصراحة سموتريتش وشريكه بن جفير، حيث يدعو الأول في برنامجه إلى استبدال السلطة بهيئات محلية وجهوية منتخبة من الفلسطينيين بما يتناسب مع واقعهم القبلي والعشائري لأنهم في رأيه لا يشكلّون شعبا وليست لهم حقوق قومية، لكن بنيامين نتنياهو وحزبه (الليكود) لا يشاركون اليمين الفاشي كل آرائه بالضرورة، ويفضلون مثلهم مثل أطراف الحكومة السابقة بقاء السلطة الفلسطينية ضعيفة وخاضعة.

نشأت السلطة الوطنية الفلسطينية نتيجة لاتفاق أوسلو من جهة، وبقرار من هيئات منظمة التحرير الفلسطينية وتحديدا من المجلس المركزي الفلسطيني في دورته المنعقدة بتونس في اكتوبر 1993 بعد أربعة أسابيع من توقيع اتفاق أوسلو، وبذلك اكتسبت السلطة الفلسطينية مكانة سياسية وقانونية دولية بعد أن وقع على الاتفاق كل من الرئيس ياسر عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين، بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون وشهادة وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا.

ومع أن الاتفاق المذكور أُبرم في ظروف دولية وإقليمية بالغة السوء بالنسبة للعرب والفلسطينيين، وجاء مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والحرب الدولية الأولى على العراق، فقد وجدت القيادة الفلسطينية في الاتفاق آنذاك فرصة لتثبيت موطىء قدم لها على أرض الوطن، وإنقاذ القضية الفلسطينية من الشطب والتصفية، وراهنت على وجود رغبة إسرائيلية جدية في إحلال السلام والتسوية، بدليل نتائج الانتخابات الإسرائيلية في العام 1992 التي جاءت بحكومة حزب العمل.

لكن إسرائيل المتمرسة في المفاوضات، والمسيطرة على الأرض والمدعومة بشكل مطلق من الولايات المتحدة المنتصرة في الحربين (الباردة ضد الاتحاد السوفييتي والدموية ضد العراق) زرعت الاتفاق المذكور بعشرات البنود الواضحة والمبهمة، إلى جانب الألغام القابلة للانفجار في كل لحظة، فجعلته عاما وفضفضافا وواسع الذمة، يتحكم الطرف الأقوى وهو إسرائيل في تفسيره وتطبيقه، كما أن الطرف الفلسطيني - بحسب مذكرات عدد ممن فاوضوا على الاتفاق ووقفوا من ورائه وصاغوه- كانوا في أقصى درجات التعجُّل، وأهملوا بنودا ونقاطا جوهرية ( مثل قضيتي الاستيطان والأسرى والعلاقة السياسية بالقدس والمقدسيين) وكان يمكن تحقيق إنجازات واختراقات مهمة في هذه المجالات لو تماسَك الموقف الفلسطيني قليلا وأظهر بعض الصلابة، وهو الأمر الذي كشفته كذلك مذكرات كل من اسحق رابين وشمعون بيرس وأعوانهما.

ظلت السلطة الفلسطينية، والشعب الفلسطيني بشكل عام، عرضة لضغوط وابتزاز الحكومات الإسرائيلية التي استخدمت كل ما تملك من أدوات ونقاط قوة لإخضاع الفلسطينيين ومطالبتهم بتقديم تنازلات سياسية، في هذه السياق كان تحكُّم إسرائيل في الأموال الفلسطينية التي تُورّد للخزينة الفلسطينية عبر المقاصة، هو السلاح الأسهل والأكثر استخداما حتى لمعاقبة السلطة على مواقفها السياسية المحلية والدولية، مثل تشكيل الحكومة العاشرة برئاسة اسماعيل هنية، ثم حكومة الوحدة الوطنية، مرورا بالانضمام لبروتوكول روما والمحكمة الجنائية الدولية، والإصرار على دفع رواتب الشهداء والأسرى، وصولا إلى مشروع القرار الأخير في الأمم المتحدة لاستفتاء محكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال وممارساته. إلى جانب قرصنة أموال المقاصة.

استخدمت إسرائيل أيضا قضايا الأسرى والاعتقالات الجماعية، والتحكم بالمياه والمعابر والاستيراد والتصدير، وحتى عمليات الاجتياح للمناطق المصنفة (أ) وسيطرتها على الطرق الرئيسية ومداخل المدن والقرى، وصولا لبطاقات الشخصيات المهمة كأدوات لابتزاز السلطة السلطة.

ترفض إسرائيل كون السلطة نواةً لمشروع وطني يهدف للحرية والاستقلال، فهي أصلا وعبر حكوماتها لا تعترف بالفلسطينيين كشعب له حقوق سياسية، وإنما كسكان لهم حقوق معيشية فقط، ولذلك فإن دولة الاحتلال تحارب أي مظهر من مظاهر السيادة الفعلية كالسيطرة على الأرض والمياه والأجواء والحدود والمجال الكهرومغناطيسي، ولا تبالي بالطبع بمظاهر السيادة والأُبّهة الشكلية التي يحرص مسؤولونا عليها مثل ألقاب التفخيم والامتيازات والمرافقين. وفي الوقت نفسه فإن إسرائيل بتياراتها الرئيسية لا تُحبّذ انهيار السلطة لأن بقاءها يحقق لإسرائيل جملة من الفوائد، أبرزها إعفاء دولة الاحتلال من أية مسؤولية تجاه أكثر من خمسة ملايين فلسطيني يعيشيون في الضفة وغزة، والاحتلال ليس معنيا بالعودة لإدارة نظام السير في شوارع المدن الفلسطينية ولا لإدارة التعليم والصحة. ويطمح الاحتلال إلى ااختزال دور السلطة في الوظيفتين الأمنية والاقتصادية بما يساهم في حماية أمن إسرائيل، وقبل ذلك فإن دولة الاحتلال معنية بمواصلة تضليل العالم وإيهامه بأن ثمة عملية سياسية جارية، صحيح أنها معطلة ومتعثرة لكن المسؤولية عن ذلك يتحملها الطرف الفلسطيني الذي لا يفي بالتزاماته (كذا)، وأن كل شيء يجب أن يحل عبر المفاوضات، لا عن طريق الأمم المتحدة ولا المحاكم الدولية، وهذه الحجة الواهية بالتحديد هي التي تستخدمها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون في دعم الموقف الإسرائيلي والتصويت إلى جانبه دائما.

إذن إسرائيل تريد بقاء السلطة ولكنها تريدها خاضعة وضعيفة، وغير قادرة على اتخاذ قرارات وطنية حاسمة، مثلها مثل المريض الذي يستمر في حياته اعتمادا على وسائل الإنعاش والحُقن، وكان يمكن لنا كفلسطينيين أن نقلب هذه المعادلة لو جنّبنا شعبنا كارثة الانقسام، وعملنا في وقت مبكر على تغيير وظائف السلطة وحصرها في الجانب الخدمي، بدل أن تقوم هذه السلطة الضعيفة بابتلاع منظمة التحرير ومعها فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية.