الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

غزة: صمود أم هزيمة؟

نشر بتاريخ: 18/05/2023 ( آخر تحديث: 18/05/2023 الساعة: 12:44 )

الكاتب: حيدر عيد

مرة أخرى يثير شلال الدم المتدفق في قطاع غزة والقدرة الخلاقة للشعب الفلسطيني على المقاومة والتصدي لواحد من أقوى جيوش العالم، و إن كان أكثرها غباء، جدلا محتدما في الأوساط الفلسطينية المختلفة حيث أدت حرب الابادة الأخيرة والتي استخدمت فيها منظومة الاستعمار و الابارثهيد طائرات و مسيرات و صورايخ و كافة أنواع الأسلحة التقليدية منها وغير التقليدية إلى ظهور العديد من التساؤلات الهامة عن مفهوم المقاومة، وعما إذا كان من الممكن أو من غير الممكن اعتبار محصلة الحرب نصرا للشعب الفلسطيني أم لا. وهي ذات التساؤلات التي ظهرت في حروب اسرائيل الإبادية منذ عام 2008 متبوعة بمجازر إبادية متعددة.

وفي بداية الحرب الوحشية الأخيرة على قطاع غزة, قيل لنا على لسان بعض القطاعات السياسية الفلسطينية أن اللوم يجب أن يقع على عاتق "الطرفين" المعنيين , الجهاد الإسلامي هذه المرة و إسرائيل وان على الجهادوقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل نهائيا, كما واعتبر هذا الفريق ذاته جميع أشكال المقاومة العنفية و حتى اللاعنفية عبثية الهدف . والآن و بما أن القليل من القنابل تنهمر على غزة مؤقتاً ,يشتد الجدل مرة أخرى حول ما إذا كانت نتائج الحرب الأخيرة نصرا للفلسطينيين أم هزيمة لهم. أما بالنسبة للطبقة الحاكمة الفاشية في إسرائيل فقد كانت الإجابة واضحة بالرغم من الحقيقة الجلية والتي تفيد أن أيا من الأهداف المعلنة مع بداية الحرب لم يتم تحقيقه , فهذا واضح تماما لان هؤلاء كأمثالهم في المعسكر العربي الانهزامي ينظرون إلى عدد الشهداء والمشردين و الجرحى كمعيار لتحديد نتيجة الحرب سواء بالنصر أو الهزيمة.

ويفشل هذا المنظور في أن يقر بان أيا مما يسمى ب " أهداف الحرب" لم يتم تحقيقه، فمنظمة الجهاد لم تفقد قوتها و إن خسرت ستة من أبرز قياداتهاوالصواريخ لازالت تطلق من قطاع غزة باتجاه إسرائيل. والتساؤل المطروح في الوقت الحاضر من قبل البعض، وبعد الوحشية الدموية المتوقعة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية : " هل كان الأمر يستحق كل ذلك ؟" وتبقى " ذلك " غامضة ومرتكزة على ردة فعل المتلقي. والمهم هنا هو التغير الجدري الذي طرأ على مواقف بعض القوى الوطنية, وآليات تفكيرها المعارضة للتأويل الجدلي للتاريخ و دورها فيه وبالتالي صناعته. و عادة ما يتم طرح هذه الأسئلة من خلال نزعها من السياق التاريخي و السياسي, فيتم تناسي أن المنظومة العنصرية قامت بقتل خضر عدنان مثلا، و أن هناك حملة اغتيالات شبه يومية في نابلس و جنين و طولكرم و أريحا، بل أن ذلك كله يأتي في سياق خيار اسرائيل الواضح إلا تكون دولة ديمقراطية لكل سكانها، بل يهودية ثيوقراطية تقنع بعض ضحاياها أنها ليبرالية، بعد أن كانت نجحت بإقناع آخرين باشتراكيتها عند تأسيسها (لدرجة اعتراف الشيوعيين بها بمجرد تأسيسها و بحقها في الوجود لمواجهة "الرجعية العربية!"

لقد ظهرت الحروب الوحشية المتلاحقة على قطاع غزة كأعاصير لم تضع فقط حدا لتصور الحل القائم على أساس الدولتين وإعادة الاعتبارلمفهوم التحريرالشامل بدلا من الاستقلال المحدود في الأجندات المطروحة , بل خلقت أيضا خارطة سياسية فلسطينية جديدة. لقد أدى هذا التصنيف الجديد لإزالة الستارعن ثقافة انهزامية تتميزبمحدودية الرؤية حيث لا يظهِر هؤلاء الانهزاميين أي نوع من الالتزام تجاه مسؤولياتهم الوطنية والقومية والتاريخية.

وربما يجدر بنا وضمن سياق المقاومة ذكر تعريف الفيلسوف الثوري " فرانتز فانون " لدور المثقف المحلي خلال مرحلة النضال على أنه الذي بعد أن يحاول أن يصهر نفسه في الناس ومع الناس, فهو الذي سوف يهز الناس و يتحول إلى ميقظ للشعب وهنا يأتي الأدب المقاوم و الأدب الوطني." وعلى صعيد آخر نجد المثقفين الانهزاميين والذين طبقا لنظرية فانون" يقدمون الدليل بأنهم قد استوعبوا ثقافة القوة المحتلة, وتتماشى كتاباتهم نقطة بنقطة مع تلك المقابلة لها في الوطن الأم حيث يكون إلهامهم أوروبيا (أو غربيا), ومن هنا يأتي تبني الرواية الإسرائيلية من قبل البعض حيث تبرأ إسرائيل من جرائمها: "نحن الملامون على ما حصل", " الجهاد لم تستشرنا عندما أشعلت فتيل الحرب , " إن الشعب هو الوحيد الذي يدفع الثمن وليست المقاومة". " كان ينبغي على الجهاد ألا ترد على اغتيال قياداتها" , " ليس بمقدورنا تحمل المزيد من الخسائر في الأرواح" , " كان على الجهاد فهم ذلك جيدا."...إلخ "

وبذات المنطق , نستطيع استنكار المقاومة الجزائرية و الجنوب افريقية, واللبنانية والمصرية و الفيتنامية حيث استخدم ذات المنطق من قبل رؤساء البانتوستانات في جنوب أفريقيا ضد الحركة المناهضة للعنصرية, وحكومة فيتشي في فرنسا وحكومة جنوب فيتنام, والقوى الرجعية المصرية ضد القيادة التقدمية لنظام جمال عبد الناصر عام 1956.

لا شك أن عدم فهم الفارق بين الحرية و تحسين شروط الإضطهاد نابع عن عدم فهم قيمة الحرية. و هذا بحد ذاته من مخلفات البرجوازية الصغيرة الرثة و المسكونة بمركبات ضعف و و هزيمة و افتتان بالسيد الكولونيالي الأبيض, و نمط حياته, و في نفس الوقت اعتداد بالنفس مقترن بمحدودية، و تطلعات التسلق الطبقي الراسخة في تربة المرارة و ازدراء واقعها البائس الذي تعتبر أن أي فعل مقاوم مسئول عنه!

ان ثقافة المقاومة تصر على الحق في طرح التاريخ الفلسطيني كوحدة واحدة, متماسكة و أساسية. كما أنها تعكس وعيا وطنيا و تاريخيا مفاده أن بإمكان الفلسطينيين أن يكونوا عناصر فاعلة للتغيير في حاضرهم ومستقبلهم بغض النظر عن أجندات المتبرعين الغربيين و الولايات المتحدة, و مع هذا فإننا نرى أن الانهزاميين عاجزون عن الاعتراف بالشعب لأنهم يرفضون احترام إرادته التي عبر عنها بأكثر من وسيلة. ويتعارض هذا القصور في الوعي السياسي و البحث عن الحلول الفردية كصفات رئيسية للعقلية الانهزامية تماما مع الواقع الوطني للشعب الفلسطيني المناضل إذ لابد أن يبدأ الوعي بالرفض التام للشروط المفروضة من قبل الاحتلال الإسرائيلي و و الولايات المتحدة على الشعب الفلسطيني, والأكثر أهمية هو رفض التفاهات المقدمة على أنها جائزة لحسن السيرة لسلوك أقلية مختارة من الفلسطينيين.

إن أهمية و خطورة هذه اللحظة التاريخية تكمن في أنها أول مواجهة مع حكومة صهيونية أعلنت من خلال أعضاء التحالف بها أنها لن تتنازل عن حل الدولة اليهودية أحادية القومية (الديانة) بين نهر الأردن و البحر المتوسط, وهو حل بالضرورة يتطلب تهجير فلسطينيي ال48 و الضفة المحتلة , إبادة قطاع غزة بشكل بطيئ و على مراحل.

على أية حال, يؤخذ على المقاومة الفلسطينية تردادها لكليشيهات الاستقلال الشكلي و غياب رؤية سياسية واضحة تخلق صلة ربط بين نضال كافة الفلسطينيين سواءً كان ضد احتلال غزة و الضفة الغربية, أو ضد الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين القائمة على التمييز العرقي ضد أكثر من مليون و نصف مواطن فلسطيني ناهيك عن لاجئي 1948 المشردين في الشتات. ان صمود غزة و توفيرها الحاضنة الشعبية للمقاومة جاء من خلال دماء الأطفال و النساء و الرجال الذين ضحوا بأرواحهم لكي نعيش نحن و نستمر في الصمود.

لقد حان الوقت لنضال جدي حاسم من أجل الحرية و العدالة لكل مكونات الشعب الفلسطيني. كل ذلك يتطلب مراجعات نقدية جادة، فنحن نمر في مرحلة ما-بعد-الثورة, أي مرحلة الوصول لقناعة واضحة بعدم جدوى الخطاب و الأساليب التي قام باتباعها, ومن ثم استهلاكها، الثوريون/ات القدامى, ومن تبعوهم، و أنها أصبحت عاجزة عن تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها: العودة و التحرير.