الأحد: 04/05/2025 بتوقيت القدس الشريف

ماهية فلسطين

نشر بتاريخ: 03/05/2025 ( آخر تحديث: 03/05/2025 الساعة: 18:20 )

الكاتب: هديل ياسين

فلسطين. ليست مُجرد أسم على خارطة، هيّ أسمى. ليست سطراً كُتبَ في كتب الجغرافيا، من يعرفها، يعرف أنها الفتاة ذات الشعر العسلي الطويل، من تملك قصة تاريخ، قصة شعب، قصة أرض عانقت السماء بطهرها، عنوان حق لا يزول لمجرد أنها سُلبت من جدائلها القوية التي تمايلت مع معانقة السماء، وتناثرت جدائلها بحكاية شهيد، بنبض أسير، فطر قلب أم، أم أحتضنَُت وطعنت مِن مَن لا يمكنهم معانقة السماء. في كل حبة تراب منها، تسكن قصة شهيد ضحى بروحه ليبقى الوطن حيّاً، وحكاية أسير نقش اسمه على جدران السجون عنواناً للكرامة، ونبض أمٍّ تُحيك لأطفالها ثياب الصبر والرجاء. وحكاية طفل رضع من أمه ذات الجدائل معانفة السماء. وحكاية أرض. وحكاية عطاء غير متناهي.

فلسطين. هي وطن تسكنه الأرواح قبل أن تسكنه الأجساد، وهي الحلم الذي لم ينكسر رغم أعاصير الألم التي ضربت به. في محاولة لأجهاض روحه من رحم الأم، فلسطين قصة شعب اختار الصمود رغم الجراح، وأبى أن ينحني رغم قسوة الغزاة، قصة أرض قدستها الأديان وزينت صفحات التاريخ، فكانت على مر العصور مهد الحضارات ومسرى الأنبياء ومنارة القلوب التواقة للحرية. فلسطين اليوم تختصر مأساة أمّة بأكملها، وتجسد صراعاً بين الحق الساطع والباطل المعتدي.

على أرض فلسطين، يتجدد كل يوم معنى البطولة في صورة مغلفة بألم. مقاومة حتى التحرر. في أزقتها المهدمة، وعلى أنقاض بيوتها التي دمرها القصف، وفي وجوه أطفالها الذين كبروا قبل أوانهم تحت نيران الاحتلال، تتجلى أسمى معاني الكرامة. ما بين حصار غزة وغطرسة الاستيطان في الضفة، وما بين تهويد القدس ومحاولات سرقة الهوية الوطنية، يثبت الفلسطيني أنه أكبر من الجرح وأقوى من المحنة. لقد خاض هذا الشعب معاركه بصدور عارية، وقلوب كبيرة، وتحدى أقوى جيوش العالم بإيمانه الراسخ بحقّه، مؤمناً أن النصر لا يُقاس بعدد العدة والعتاد، بل بصدق الإيمان وعدالة القضية. وإنك لترى الفلسطيني، أينما حل، حاملًا مفتاح العودة في عنقه، ومغروساً في قلبه يقين العودة، فلا اللجوء أطفأ جذوة حنينه، ولا الغربة بددت ملامح الوطن من ذاكرته. حاملاً فلسطين بخارطتها بين ضلوعه.

فلسطين ليست ذكرى تبكيها الشعوب في المناسبات، ولا قصيدة تلقى بحماسة ثم تنسى، بل هي مسؤولية حيّة في الضمائر. حب فلسطين ليس شعاراً يرفع لمواسم الحماسة، بل هو التزام دائم بالنضال من أجل الحرية، وإيمان عميق بأن الأرض لا تعود بالكلمات الرنانة، بل بالفعل الصادق، والوفاء الدائم للعهد. الوقوف مع فلسطين معناه أن ترفض كل أشكال التطبيع والخضوع، أن تدعم حقوق شعبها كاملة غير منقوصة، أن تؤمن أن القدس عاصمة أبدية، لا يمكن أن تباع أو تشترى أو تقسم. فلسطين باقية ما بقي الأحرار في العالم يؤمنون أن للحق صوتاً لا يخفت، وأن إرادة الشعوب قادرة مهما طال الزمن أن تحطم قيود الظلم والطغيان. فلسطين ليست وطناً عادياً؛ هي بوصلة الأخلاق والحق الإنساني في هذا العالم المضطرب. هي التي علمتنا أن الجدران قد تُهدم ولكن الأحلام لا تهزم، وأن جذور الزيتون تبقى رغم محاولات الاقتلاع.

سلام عليكِ يا فلسطين، سلام على أرضكِ الطاهرة التي رويت بدماء الشهداء، سلام على هوائكِ الذي تنشقه الأرواح الحرة، سلام على شعبكِ الذي علّم العالم أن الحرية ليست هبةً تعطى، بل حق يُنتزع بالصبر والكفاح. سنظل نحملكِ في قلوبنا، ونسير نحوكِ مهما طال الطريق، لأنكِ لستِ مجرد وطن، بل أنتِ المعنى الأسمى للانتماء، وأنتِ الوعد الذي لا يخلفه الأحرار، والأمل الذي لا ينكسر، والعهد الذي سنظل عليه ماضين حتى آخر رمق.

وهكذا تبقى فلسطين، رغم قيد الاحتلال ومرارة الشتات، وردة عصية على الذبول، تورق في قلوب المؤمنين بها أينما كانوا. هي ليست مجرد وطن، بل نداء دائم في الوجدان، يُلهب الأرواح شوقاً وعزيمة، ويغرس فينا الإيمان بأن الحق، وإن طال عليه ليل القهر، لابد أن تشرق عليه شمس الحرية. فليحمل كل منا قضيته كأمانة، وليكن صوته رصاصة حق، وكلمته حصناً منيعاً، حتى يأتي اليوم الذي تتحقق فيه العودة، وترتفع رايات النصر فوق القدس محررة، وعكا وحيفا ويافا تشهد عودة أصحابها. إلى ذلك الحين، سنظل نردد مع كل نسمة تمر فوق الزيتون. أنت منذ غيرك فلسطين. لن يكون. ولم يكن.