الكاتب: د. عبد الرحيم جاموس
لا يزال الصراع بين الثقافة والأيديولوجيا يمثل إحدى الإشكاليات الفكرية والسياسية الأكثر تعقيدًا في واقعنا العربي والإسلامي، بل وفي السياق الإنساني عامة.
فالأيديولوجيا، على اختلاف أشكالها ومصادرها—سواء كانت وضعية كالاشتراكية والماركسية، أو دينية حين يتم تطويع الدين لخدمة مشروع سياسي مغلق—تميل بطبيعتها إلى الانغلاق، ورفض التنوع، وفرض رؤيتها كحقيقة مطلقة.
الأيديولوجي لا يعترف بالآخر، بل يصنفه ضمن ثنائية جامدة: إما معنا أو ضدنا، إما على الحق المطلق أو في الباطل المطلق، متجاهلًا أن الواقع الإنساني، بتعقيداته وتنوعه، لا يمكن اختزاله ضمن هذه الثنائيات الحادة.
الأيديولوجيا تُصمّم قوالب جاهزة تسعى لفرضها على الجميع، فتصبح أداة لتطويع الواقع وتشكيله قسرًا، لا لفهمه والتفاعل معه.
وهنا يتجلى التناقض الجوهري مع الثقافة، التي هي بطبيعتها مرآة للتعدد والتفاعل، ومعبر إنساني عن فطرة الخلق، القائمة على التنوع في الفكر والمعتقد والهوية والمصلحة.
فالثقافة تسعى إلى الفهم، لا إلى الفرض؛ إلى الحوار، لا إلى الإلغاء. إنها تستوعب المتغيرات، وتعترف بتباين التجارب والسياقات، وتقدّر اختلاف المصالح وتداخلها وتضاربها أحيانًا.
وقد شهد التاريخ القريب تجارب صارخة تعزز هذه الرؤية، فحين فرضت أنظمة شمولية—كما في التجربة السوفييتية أو حتى في تجارب الحركات الإسلاموية الراديكالية—أيديولوجيتها على المجتمعات، انتهت إلى تصدع داخلي وصدام عنيف مع مجتمعاتها ومع الآخر، بل ومع الواقع نفسه الذي رفض التماثل مع تلك القوالب الجامدة.
إنّ النموذج الثقافي بطبيعته أكثر انفتاحًا وقدرة على التكيف.
ولهذا نجد أن الدول التي اختارت الثقافة كمنطلق لبناء وعيها الجمعي ومشروعها الحضاري—مثل بعض النماذج الآسيوية الناهضة أو حتى التجربة الأوروبية ما بعد الحرب العالمية الثانية—قد استطاعت أن تبني مجتمعات أكثر عدلًا واستقرارًا وتنوعًا.
ذلك أن الثقافة لا تهدف إلى قسر الإنسان، بل إلى فهمه والارتقاء به.
ومن المؤسف أن جزءًا كبيرًا من أزمتنا الراهنة في المجتمعات العربية والإسلامية يعود إلى فشلنا في التمييز بين ما هو ديني سماوي مقدّس، وما هو أيديولوجي بشري قابل للنقد والاختلاف.
لقد أدى تحويل الدين إلى أداة أيديولوجية مغلقة إلى نشوء أنظمة وحركات تعتقد بامتلاك الحقيقة المطلقة، وتعمل على فرضها بالعنف إن لزم الأمر، متجاهلة سنن الله في خلقه، القائمة على الحرية والتعدد.
وهكذا، فإن الإشكالية ليست في الدين ذاته، بل في تأطيره ضمن قوالب أيديولوجية سياسية ضيقة، كما تفعل بعض التيارات التي ترى في فهمها الخاص للنص الديني المرجعية الوحيدة، وتُقصي كل من يخالفها أو يختلف عنها وهذا ما يدفع مجتمعاتنا ثمنه اليوم: انقسامات داخلية، صراعات طائفية، احتقان اجتماعي، وتعطيل لمشاريع التنمية والبناء.
إن الوعي بهذه الإشكالية يمثل الخطوة الأولى نحو تجاوزها، فلا نهضة حقيقية دون الاعتراف بحق الإنسان في الاختلاف، وفي التفكير الحر، وفي العيش الكريم، دون وصاية فكرية أو سياسية أو دينية.
ولا يمكن بناء مشروع نهضوي عربي إلا من خلال ثقافة تتسع للكل، وتُدار بالحوار، وتُبنى على أسس العدل والتسامح والمواطنة.
لذا، فإن معركة المستقبل ليست بين الأيديولوجيات، بل بين نموذج ثقافي منفتح، يؤمن بالتعدد ويدير الاختلاف بحكمة، ونموذج أيديولوجي مغلق، يسعى لفرض تصور واحد على واقع متعدد، وستكون الغلبة في النهاية للفطرة الإنسانية وللثقافة، لأنها الأقدر على التفاعل، والتجدد، والبقاء.