الكاتب:
سند ساحلية
مع اقتراب موعد انعقاد مجمع الكرادلة في الفاتيكان لانتخاب بابا جديد خلفًا للبابا فرنسيس، يعيش العالم الكاثوليكي لحظة محورية، روحية وتاريخية. وبينما تنشغل التحليلات الكنسية والإعلامية برصد التوجهات الجغرافية والتيارات اللاهوتية داخل المجمع، فإن المسيحيين في المشرق، وبخاصة في فلسطين، ينظرون إلى هذا الحدث من زاوية مختلفة تمامًا. فبالنسبة إليهم، لا يُختصر الأمر فيمن سيجلس على كرسي بطرس، بل في رجائهم العميق بأن يكون البابا الجديد راعيًا يعرف وجعهم، يشعر بجراحهم، ويفهم شهادتهم اليومية في أرض تتآكل فيها الحقوق وتزداد فيها الهشاشة.
إنّ هذه اللحظة الكنسية تأخذ في مهد المسيحية طابعًا خاصًا، يستند إلى التوق لجسر روحي وراعوي حقيقي، يربط بين الكنيسة الجامعة ومعاناة جماعة مؤمنة تعيش في قلب نزاع طويل ومعقّد.
من هنا، تبرز شخصية الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، كمرشح طبيعي تتقاطع عنده الاعتبارات الروحية والراعوية والتاريخية. فرغم أنه إيطالي، إلا أن بيتسابالا ليس مجرد كاردينال قادم من روما، بل شخصية كنسية عاشت القسم الأكبر من خدمتها في قلب الأرض المقدسة، مهد المسيحية وملتقى الديانات، وأحد أكثر أماكن العالم تعقيدًا من حيث السياسة والدين والتاريخ.
ليس من السهل أن تجد شخصية كنسية تجمع بين عمق لاهوتي راسخ وتجربة راعوية حقيقية ومعمّقة في أخطر بؤر التوتر الجيوسياسي في العالم. لكن الكاردينال بيتسابالا يمثل هذا الاستثناء. فمنذ أكثر من ثلاثين عامًا، دخل المنطقة راهبًا فرنسيسكانيًا شابًا، ليبدأ مسيرة طويلة في قلب الأرض المقدسة. تولى منصب "حارس الأرض المقدسة"، أحد أرفع المناصب الكنسية في الشرق الأوسط، ثم بطريركًا للقدس، فكان في كل مرحلة أكثر من مجرد مسؤول كنسي. كان شاهدًا على الألم، ومرافقًا للناس في تفاصيلهم اليومية. سكن القدس، زار غزة، واختبر واقع الضفة الغربية عن قرب. صلى مع اللاجئين، ورفع صوتهم إلى العالم. تجربته لم تكن نظرية، بل وُلدت من تماس مباشر مع المعاناة والرجاء.
وربما ما يجعل تجربته فريدة، أنه جمع بين الحضور القريب من الناس، والفهم العميق للواقع، دون الوقوع في التسييس أو الخطاب الشعبوي. ففي قلب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم يتردد في التعبير عن مواقف واضحة تجاه العدالة وحق الفلسطينيين في حياة كريمة، لكن بأسلوب هادئ، متّزن، لا يثير العواصف، ولا يساوم على الحقيقة. هذا التوازن بين الوضوح والانفتاح، بين المبدأ والواقعية، هو ما يفتقده كثيرون في خطاب الكنيسة حاليًا، خاصة في الملفات الحساسة.
كذلك، فإن بيتسابالا لا يمثل فقط همّ الشرق، بل يحمل في شخصه أيضًا ما قد يُرضي أصواتًا داخل المجمع تتوق إلى "عودة" بابا إيطالي بعد عقود من الباباوات غير الإيطاليين. غير أن المسألة هنا ليست جغرافيا فقط، بل فيما تمثله شخصيته: إيطالي من القدس، لا موظف في الإدارة الفاتيكانية، بل راعٍ عاش سنواته بين المسيحيين القلائل في الأرض التي وُلد فيها المسيح. هو توصيف دقيق له، يجمع بين هوية الكنيسة الأم وخبرة الكنيسة في الأطراف، التي دعا إليها البابا فرنسيس مرارًا. ومن هذا الموقع، يستطيع أن يكون بابا يفهم هموم الجنوب العالمي، دون أن يقطع مع قلب الكنيسة التاريخي.
هذه السنوات من الخدمة جعلته لا يقرأ واقع المسيحيين من تقارير أو زيارات سريعة، بل من المعايشة اليومية لآلامهم وآمالهم، من اللقاءات المباشرة، ومن مرافقة الضعفاء والمهمشين، ومن محاولات التوفيق بين الكلمة الإنجيلية ومتطلبات العدل والسلام في قلب صراع طويل الأمد.
ولعلّ تجربته الطويلة في بيئة دينية وثقافية متعددة، أكسبته حسًّا راعويًا خاصًا، يظهر في طريقته في مخاطبة غير المسيحيين، وفي انفتاحه الكبير على الحوار بين الأديان. لكنه انفتاح لا يذيب العقيدة، ولا يتنازل عن جوهر الإيمان. بل هو نموذج لما يمكن تسميته "الانفتاح الواثق"، الذي يجمع بين الثبات والتواضع، بين الهوية والحوار.
وما يلفت الانتباه أيضًا هو بساطة حضوره. فبيتسابالا، رغم منصبه، معروف بتواضعه، وبتواصله القريب مع الناس، وقدرته على الإصغاء الحقيقي. وهو لا يتعامل مع القضايا الكبرى بوصفها ملفات نظرية، بل يراها في وجوه البشر الذين عاش بينهم. وربما هذه البصمة الإنسانية هي ما تجعل كثيرين من مسيحيي الأرض المقدسة، وحتى من المسلمين واليهود الذين عرفوه، يشعرون أنه شخص يفهمهم، لا فقط بسبب موقعه، بل لأنه عاش بينهم وتكلّم لغتهم، لا بمعناها اللفظي فحسب، بل بلغتهم الثقافية، ومشاعرهم، وتجربتهم الحياتية المشتركة.
بالطبع، لا يمكن التنبؤ بما سيحدث داخل المجمع. فالقرار يتمّ في أجواء من الصلاة والكتمان، وفق إلهام الروح القدس كما تؤمن الكنيسة. لكن من المشروع أن يحمل المؤمنون في قلوبهم أمنياتهم، وأن يعبّروا عنها بصوت مسؤول. وفي هذا السياق، فإن كثيرًا من مسيحيي المشرق يرون في بيتسابالا شخصية تحمل آمالهم، لا لأنها تدغدغ العواطف، بل لأنها ترتكز إلى سيرة واضحة، ومواقف متّزنة، وحضور راعوي أصيل.
إذا كانت الكنيسة مدعوة اليوم إلى أن تُصغي لـ"صوت الأطراف"، كما شدد البابا فرنسيس، فليس من المبالغة القول إن الكاردينال بيتسابالا يمثّل هذا الصوت. صوت القدس، وفلسطين، وصوت الإنسان البسيط الذي يطلب راعيًا يشبهه. وربما، بعد كل ما عايشه من قرب في الأرض التي بدأ منها الإنجيل، آن له أن يحمل هذا الصوت إلى روما، لا كمجرد ممثل للشرق، بل كأب جديد للكنيسة الجامعة.
فشخص مثل بيتسابالا، رغم جذوره الإيطالية، إلا أنه اليوم محسوب على القدس أكثر مما هو محسوب على بيرغامو أو ميلانو. هو "إيطالي مقدسي".