الكاتب: ثروت زيد الكيلاني
تتعايش مجتمعاتٌ بأكملها مع الانهيار كأنه قدرٌ يومي، فتنقلب السخرية من مجرد ملاذ نفسي إلى بنية شعورية، ومن تعبير لغوي عابر إلى آلية تكيّف مزدوجة: تارةً تواسي، وتارةً تُضلّل. لم تعد النكتة نكتة، بل صارت نظامًا دفاعيًا يحوّل الألم إلى مادة هزلية، ويفرغ الوجع من طاقته النقدية بتحويله إلى طقسٍ اجتماعي مسلٍّ. هكذا، لا ينتصر الإنسان على قهره، بل يعيد إنتاجه في هيئة قهقهة. يضحك من فشله كأنه حر، ويسخر من موته كأنه خالد.
في السياق الفلسطيني، لا تأتي السخرية ترفًا ولا تسلية، بل تنبثق كرد فعل تاريخي على انسداد الأفق وتكرار الخذلان. لكنها حين تتكرر بلا أفقٍ للفعل، وتتحول من قوسِ احتجاجٍ إلى مستنقع استهزاء، تفقد قدرتها على الصدمة. تغدو أداة تخديرٍ ناعم، تُحوّل الوعي من طاقة مواجهة إلى استهلاك دائم للخيبة. نضحك، لا لنُحرر أنفسنا، بل لنُسلّيها. فهل نضحك لأننا ندرك حجم الفاجعة؟ أم لأننا فقدنا القدرة على مواجهتها بغير التندر؟
ليست الخطورة في السخرية ذاتها، بل في اللحظة التي تُنتزع فيها من بعدها الأخلاقي لتُصبح مهربًا من الفعل. حين يُستبدل النقد بالتهكم، يُستبدل الوعي بالتهوين، والفعل بالتندر. عندها يصبح المثقف مهرّجًا، والمقاومة نكتة، والاحتلال مشهدًا ساخرًا يُعاد تمثيله في المسلسلات، والانقسام لازمةً غنائية تُلهي عن قبح الواقع ببهلوانية لفظية. كل نكتةٍ عن السلطة لا تطيح بها، بل تزيّن استمرارها. نضحك على الغياب، لا لنستعيد الحضور، بل لنُجمّل العجز.
يفقد الضحكُ أثره حين يُستبدل بالفعل، ويتحوّل من طاقة مقاومة إلى آلية تهكم مُفرغة من المعنى. تُختزل الكلمات إلى أدوات سخرية، لا أدوات وعي، ويتحوّل الخطاب العام إلى نغمة ساخرة تُبالغ في كل شيء حتى تعجز عن الإيمان بأي شيء. يتلاشى الحدّ بين الجاد والهازل، بين النقد والتهريج، وتذوب المقاومة في استهلاكٍ يومي للخيبة. هكذا ينصهر الوعي في بوتقة "اللاجدية" التي تتستر خلف قناع "النباهة الساخرة"، لكنها لا تُنتج سوى العجز المُنمّق. والمفارقة أن الذكاء ذاته، حين يُفصل عن الإرادة، يصبح غطاءً أنيقًا لانسحابٍ جماعي من الفعل.
المعضلة الأعمق أن هذا المزاج الساخر يجد من يحتفي به، يصفق له، ويعيد تدويره. تتحول السخرية إلى هوية ثقافية، والضاحك إلى بطل شعبي، وتُختزل البطولة في القدرة على السخرية من السلطة، من الواقع، من الذات، دون أي محاولة جدّية لاجتراح البديل. وحين تتكرر هذه اللغة حتى تُصبح بنية جمعية، فإنها لا توحّد الناس على هدف، بل توحّدهم على الانسحاب من المعنى، والانكفاء داخل شرنقة التهكم، كمن يقف على شفير الهاوية ويتغنّى بحافة الجرف.
كل تعليقٍ على الاحتلال لا يُربك وجوده، بل يُؤنسنه. وكل سخريةٍ من الانقسام لا تُنهيه، بل تُروّضه. وما يُفترض أنه مقاومة رمزية، يتحوّل إلى قبول مزخرف، تُجمّله النكتة وتُقنّعه العبارة الحادة. فهل نعرف، أم فقط نُجيد التهكم؟ هل نواجه، أم نُهرّب المواجهة إلى حضن النكتة؟ هل نحلم، أم نُخدّر الحلم حتى لا يؤلم؟
ما من ضير أن نضحك. لكن الضحك الذي لا يُوقظ، هو ضحكٌ ميت. والوعي الذي لا يتحول إلى فعل، هو وعيٌ مخدَّر. والسخرية التي لا تحمل في قهقهتها نارًا، لا تُشعل شيئًا. ليست القضية في رفض السخرية، بل في مساءلتها: هل تفتح بابًا نحو الفعل؟ أم تُغلق الأبواب كلها باسم الذكاء والتهكم؟ هل تنقذنا من العجز؟ أم توثّقه بطقوسٍ يومية من الضحك المعمَّم؟
نحن لا نعيش على الحافة فقط، بل نضحك منها. وبدل أن نبني جسرًا فوق الهاوية، نسلّط ضوءًا عليها ونحوّلها إلى مسرح. وبدل أن ننتج وعيًا يكسر الحلقة، نعيد تدوير السخرية التي تحبسنا داخلها. فالأمم لا تُبنى بنكاتها، بل بما يتجاوز الضحك. بما يُوجِع بما يكفي ليوقظ، لا بما يُسلّي حتى ننسى لماذا بدأنا نضحك أصلًا.