الثلاثاء: 24/06/2025 بتوقيت القدس الشريف

تكدس الشيكل في الأراضي الفلسطينية: أزمة نقدية مرّكبة تهدد الاستقرار المالي والاجتماعي

نشر بتاريخ: 23/06/2025 ( آخر تحديث: 23/06/2025 الساعة: 20:41 )

الكاتب:

أ. أماني سعيد جوهر

في ظل الانهيارات الجيوسياسية والمالية المتتالية، تعاني الأراضي الفلسطينية اليوم من واحدة من أخطر الأزمات النقدية منذ سنوات، وهي أزمة تكدس العملة الشيكل الإسرائيلي (ILS) في الجهاز المصرفي الفلسطيني. وقد تفاقمت هذه الأزمة خلال الربع الثاني من عام 2025 بعد صدور قرار من وزير المالية الإسرائيلي بمنع استبدال أي فائض شيكل من البنوك الفلسطينية بشكل كامل ونهائي، وهو ما شكل تحولاً جوهريًا من سياسة التقييد إلى سياسة الإغلاق التام.

وبالمقابل، امتنعت البنوك الفلسطينية عن استقبال الإيداعات النقدية بالشيكل، نظرًا لتجاوز طاقتها الاستيعابية وعدم وجود قنوات تصريف الفائض. يأتي ذلك في وقت لا تستطيع الحكومة الفلسطينية دفع رواتب الموظفين العموميين كاملة، مما أدى إلى تفاقم الأزمة المالية لدى الأفراد والأسر، وتعطيل القدرة على الإنفاق حتى على أساسيات الحياة اليومية.

أولاً: مظاهر الأزمة وأبعادها

* تكدس نقدي غير مسبوق بالبنوك الفلسطينية تحتفظ بمليارات الشواكل في خزائنها، دون إمكانية لتصريفها أو تدويرها.

* تكلفة التأمين والنقل والتخزين تزداد شهريًا على الجهاز المصرفي.

* المخاطرة العالية للاحتفاظ بهذا الكم الهائل من الأموال ضمن الخزنات إن كانت الفرعية أو الرئيسية للمصارف.

ثانياً: شلل في عمليات الإيداع البنكي والإجراءات البنكية.

* البنوك أوقفت قبول الإيداعات بالشيْكُل من التجار والأفراد، إذ تضمن حدود ضيقة جدًا، ما أدى إلى تراكم السيولة خارج النظام المصرفي (اقتصاد الظل).

* التعليمات المعلنة من سلطة النقد بتقييد الإيداعات بأقصى مبلغ (5000 شيكل).

* صعوبة إجراءات منح بطاقات الـ Credit Debit Card للعملاء. بطاقات الـ Credit Card تقوم بالخصم مباشرة من حساب العميل وتتطلب فتح حساب في البنك للحصول عليها.

* عجز الموظفين الحكوميين عن الوصول لأموالهم حتى إن تمكن موظف من إيداع مبلغ لاستخدامه عبر بطاقة الدفع، تقوم البنوك تلقائيًا بخصم المبلغ لسداد التزامات سابقة (قروض، شيكات، أقساط)، مما يحرمه من استخدام هذا المبلغ لتلبية احتياجاته الأساسية (وقود، كهرباء، مياه، غذاء...).

* اقتصار بطاقة Credit Card تزيد من الالتزامات البنكية والأقساط الشهرية على حساب المواطن.

* التصنيف الائتماني بسبب الخلل في المدفوعات من الرواتب إذ لا يسمح بمنح هذه البطاقة في حال إمكانية الحصول عليها.

* انفصال بين النقد المتداول والحاجة الشرائية، السوق مليء بالنقد الورقي، لكن غياب إمكانية استخدامه (بسبب رفض البنوك والإغلاق الإسرائيلي) يعني أن هناك "سيولة معطلة" لا قيمة فعلية لها.

ثالثاً: المخاطر الاقتصادية والاجتماعية

* اختلال السيولة الداخلية للبنوك يحد من قدرتها على التمويل، ويهدد استقرارها المالي.

* تعطيل ثقة المواطن في النظام المصرفي، ما يدفع البعض إلى سحب مدخراتهم أو الإحجام عن التعامل مع البنوك.

* زيادة حجم الاقتصاد الموازي (غير الرسمي) الذي لا يخضع لأي رقابة مالية أو ضريبية.

* انتشار حالة الغضب والاحتقان الاجتماعي، خاصة لدى موظفي القطاع العام الذين يشعرون بالعجز أمام احتياجاتهم المعيشية.

رابعاً: الفجوات الهيكلية المتراكمة للأزمة

* غياب عملة وطنية فلسطينية تبقي السيادة النقدية رهينة الاحتلال.

* الاقتصاد الفلسطيني لا يزال معتمدًا على النقد (Cash-Based) دون بنية رقمية فعّالة. الثقافة المجتمعية لا تزال بعيدة عن الدفع الإلكتروني، خاصة في ظل ضعف الثقة بالبنوك حاليًا.

خامساً: مقترحات لحل الأزمة

أولاً: على المدى القصير

* الضغط السياسي والدبلوماسي لوقف القرار الإسرائيلي: إشراك الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي، والولايات المتحدة في مسار تفاوضي طارئ للعدول عن قرار وزير المالية الإسرائيلي.

* تعديل تعليمات الإيداع الصادرة عن سلطة النقد: إلزام البنوك بقبول الإيداعات النقدية بمبالغ أكبر (على الأقل حتى 20.000 شيكل)، وتوفير آليات إيداع مرنة للتجار.

* تعليق الخصم التلقائي من الحسابات للموظفين الحكوميين: إصدار تعليمات ملزمة للبنوك بعد خصم المبالغ المودعة نقدًا لسداد التزامات سابقة، واعتبارها أموالًا مخصصة للاحتياجات الأساسية فقط.

* تفعيل منصات الدفع الإلكتروني بتمويل حكومي مباشر.

* منح حوافز مالية للمحال التجارية التي تفعل الدفع عبر Visa أو الهاتف المحمول.

ثانياً: على المدى المتوسط والطويل

* إنشاء صندوق وطني لإدارة الفائض النقدي (صندوق سيادي) تتولاه سلطة النقد الفلسطينية، ويعمل كوسيط بين البنوك والمواطنين لتخزين وإعادة تدوير الفائض بشكل مؤقت وآمن.

* إطلاق خطة تحول وطني للدفع الرقمي وربط جميع مؤسسات الدولة، المرافق العامة، والمتاجر الكبرى بأنظمة دفع رقمية موحدة.

* تدريب التجار والأسر على استخدام المحافظ الإلكترونية.

* العمل على إنشاء عملة رقمية فلسطينية تحت إشراف سلطة النقد مشروع طويل الأجل يسهم في الاستقلال النقدي، ويخفف الحاجة لاستخدام النقد الورقي الذي يخضع لإملاءات خارجية.

إن ما تواجهه فلسطين اليوم من شلل نقدي ومصرفي ليس سوى نتيجة طبيعية لفقدان السيادة النقدية والاقتصادية حيث أن الأزمة الحالية لم تعد أزمة سيولة نقدية فحسب، بل تحولت إلى أزمة ثقة وسيادة وقدرة شرائية.

الحل لا يمكن أن يكون ماليًا أو تقنيًا فقط، بل يجب أن يكون سياسيًا واجتماعيًا واستراتيجيًا، يبنى على فهم شامل للواقع المعيشي والاقتصادي في فلسطين.

أي محاولة لفرض حلول شكلية (مثل الدفع الإجباري عبر Visa دون بنية داعمة) لن تنجح بل قد تفاقم الأزمة.

الفرصة الآن أمام أصحاب القرار لإعادة النظر في الأسس الاقتصادية والمالية التي تحكم العلاقة مع الاحتلال، وبناء اقتصاد أكثر استقلالية ومرونة وشمولًا.