الثلاثاء: 30/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

من القدس؛ إسمعوا الحَجَر.. جيداً

نشر بتاريخ: 20/09/2015 ( آخر تحديث: 20/09/2015 الساعة: 16:38 )

الكاتب: المتوكل طه

القدس وردة حريرية باسقة نديّة، كأنها شمعة الملائكة المتحلّقين حول الضوء!

رائحتها نافذة عميقة قوية واسعة، تنشر ريحاً كأنه المسك أو الصندل أو الندّ أو البخور .. لا أدري، لكنني امتلأت بها، وكدتُ أطير، لولا أنني استيقظت!

.. وربما قد تراءى لي أنها تقطر دهناً زجاجياً ينحو إلى الحليب، فَرَكْتُه بيدي، فتفتحت مساماتها!

.. ومنذ ذلك اليوم، والنار بين أصابعي.

***
بسبب خدعة من الزمن، بقيت بيوت المدينة أغنية من زيت وزعتر.

***
أيها السامع المرتبك! لا تكتم أنفاس الأوتار، واسْمَع الحَجَر كما ينبغي.

***
هل رأيتَها في الضباب؟ كانت تتلفَّعُ بقميص الغبش، وتختفي وراء رغوة الحليب، وتهبط في الحلم.

***
النافورة التي تعطي الأطفال شَعر البنات، أصبحت عارية، وبلا رذاذ رهيف، وراح الجنود يقتعدون حجارتها، فتشققت وتفلّعت وتناقلوها إلى المكبّ .. وهناك جمعت أمْرَها واصطفت ثانية، وأطلقت جدائلها من جديد.

***
شظايا مجموعات بشرية كانت محجوزة في كتاب.

وشعب حقيقي يسكن في ترابه وسمائه..

وثمة مَنْ يسعى لمقاربة مستحيلة.

***
كانت نساءُ الفرنجة يشبّهن صدورهن بقباب المدينة، فمنها ما يشبه قُبّة جبريل ، أو قبة الصخرة ، ومنها ما يشبه قبّة المعراج أو قبة السلسلة ، وكُنّ يفضلن ما يشبه قبّة الرصاص . أما قبة سليمان ، فلم تكن قد بلغت الرُّشد.

***
المرأةُ التي تُصلّي تحت قبّة الرسول ، وتطيل الدعاء والابتهال، كانت تدخل في المحراب وتختفي، ثم تخرج ، فيلمع النهرُ الفتيّ ، على صدر ثوبها، ويكاد البلحُ أنْ يسّاقط من النخلة الفارعة المرشوقة على ظهر ثوبها.. والمسكُ يتفتّت من بطن الظبي الذي يتبعها.

***
تخنس في حضْنه، ويمسّدها، فتغلي وترتعش وتغفو، فتشهق المدينة وترتعد، وتندّ دمعة القشعريرة .. وتبرد الحيطان.

***
الحقيقة واضحة للذين يرون!

وعيون المصالح بيضاء.. خرساء ..
***

نقطة الدم التي سقطت من فم المرأة المرابطة ، ووقعت على الإسفلت ، تفشّت وسالت في الشقوق الصغيرة، وانسربت في شعيرات الفراغ .. صارت الشوارع تنبع بالنعمان وتغطّي الأرض.

***
لقد حطّت الجوارح على سفوح وادي جهنم والربابة ووادي الواد ، واتخذت هيئة الانقضاض .. ولا شيء في الوديان غير مخلّفات الجنود والمستوطنين! غير أن الحاخام أبلغ الجنرال بأن هارمجيدو ستقع قريباً وستفيض الوديان بالجثث والديدان.

***
لم تكن دموعها مائية شفافة، إنه الابن الثاني الممدّد في النعش.. وإنه عَنْدَمٌ كاوٍ وأرجوان يغلي.
***

قدّم له شرابَ الزنجبيل وعيدان الخبز وقطع اللحم المجفّف، ولم ينتبه إلى أن وجهه كان في الكهف، وأن عموده الفقري يتغضّن كالسمك القديم، ولم ينتبه إلى أنه جاء من عَبَّارةٍ تُفْضي إلى غرفة الآثار.

***
وضعوه وراء القضبان، فأخذ يرسم زهرة عبّاد شمس، وبعد حين غطّت الزهرةُ السجن، ثم غطّت الأحياءَ تباعاً .. إلى أن أصبحت القدسُ زهرةً كبيرة ، ومن يومها صارت زهرة المدائن .. والشمس.

***
أولئك الزين كرّسوا حياتهم للزلاّت والضلالات والكبائر والموبقات والمذابح ، من كورش الإخميني وهيرودوس الأدومي وريتشارد قلب الأسد وهتلر .. إلى باقي الجزّارين .. كيف لنا أن نذكر أسماءَهم الممجوجة، ويكونوا خالدين، ويحظوا بمرور أسمائهم على ألسنتنا؟

إنهم اللعنة وخنازير التاريخ.

***

هنا عَرَّج زرياب، فأكل وشرب ونام، وكان في الليل قد أذاب الحجارة والغيومَ والمصاطِبَ والغصونَ، ونثرها حبّاتٍ تسطع كفراشات النار في السماء، ثم أخذ من جديلة الفَرس أوتاره، لينثر الأندلس على التلال.

***
.. وأخيراً تم الاتفاق على أن يقوم أصحاب الأفران في “المسرارة” على تقديم كعك السمسم والزعتر والفلافل والبيض المشوي لأهل الجنّة، وقد وقّع الطرفان على العِقْد الأبدي.

***
إن أعداء المدينة، على اختلاف عصورهم ووجوههم وألسنتهم، كانوا يأتون من الرماد، ولا يأكلون إلاّ الدم ! وهذا ربما الذي جعلهم ينصرفون عنها، فأرضها نارٌ وطعامها من الجنّة .

***
الجنين يركل بطن أُمّه، وتزداد الانقباضات المؤلمة .. وينزل ماءُ الرأس جمراً سائلاً على الفِراش .. وسيخرج المولود مثل عنقود اللّهب .

***
يا صاحبة الجلالة والسموّ والسيادة، يا بيتَ آدم الناسك فيه !

يا صاحبة العفاف الأوّاب في اللواوين والمحارب والجرسيات!

أرى أشعة الغزالة على أعمدة الجامع، كأنها الخرّوب الفتيّ الأشقر، أو زاد النحلة الشهيدة، أو أحلام الحقائب العابرة إلى الغد الفسيح .

وأرى التراب الذي عصروه فسال العرق والدم والغضب . وسمعت المنادي النحاسيّ، فردّت المأذنُ على الأجراس تبشّر بالزلزال. وناديتُ، فَحَضر الأبدُ الفلسطينيُ، يجرّ جدائل شمشون وراءه، ويطأ الأرضَ فتنشرخ كالأنهار أمامه، وتفرّ الأشباحُ، وقد ضاق بها الكوكب ..

وثمة طفل يلعب في الساحة مع الحَمام ..

***