الثلاثاء: 14/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

وداعا للبكائيات وأهلا بالأفعال

نشر بتاريخ: 08/11/2015 ( آخر تحديث: 08/11/2015 الساعة: 10:08 )

الكاتب: تحسين يقين

هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهمِ!
ربما ترك بعض الشعراء أو أكثرهم مجالات ليبدع فيها آخرون؛ على غير ما احتار به أو قرره عنترة العبسي، حين شكا صعوبة إبداع بما هو جديد.
كذا الحال في الحديث الفلسطيني والفعل!
لم أكد انتهي من قراءة مقال دكتور سلام فيّاض رئيس الوزراء السابق المطول الذي نشره مؤخرا، بعنوان "وداعا للبكائيات"، حتى عدت لقراءة معلقة عنترة خصوصا وقد كان بيتها الأول جملة الافتتاح.

وثلاثة أسباب دفعتني كي أعود للشعر العربي الكلاسيكي، ولرائد من رواد تأسيس الشعر العمودي، الأول له علاقة بمدخل القصيدة الذي يشكل تحديا للإبداع والتفكير للإتيان بما هو جديد، والثاني لكون الشعر العمودي يبدأ بالبكاء على الطلل ثم الغزل، ثم وصف الرحلة والمكان، فالدخول في الموضوع الأساسي للقصيدة، أكانت مدحا أو فخرا أو هجاء، والثالث وهو حالة الفلسطينيين غير المستقرة، التي تشبه الحالة النفسية للعرب في التنقل بين الأمكنة بحثا وراء الماء:
حُيِّيتَ مِن طَلَلٍ تَقادَمَ عَهدُهُ أَقوى وَأَقفَرَ بَعدَ أُمِّ الهَيثَمِ
لقد جذبني العنوان ليس سياسيا فقط، كون الجذب السياسي وقتيا، بل أدبيا كونه الجذب الأكثر عمقا؛ ف" لا للبكائيات" تذكر دارسي/ات الأدب العربي، وأنا منهم/ن، بأهم ثورتين أدبيتين في الأدب العربي، وهما ثورة الشاعر "الشنفرى" في لاميته بشكل خاص، والشاعر أبو نواس في معظم أشعاره، وكلاهما شاعران متنوران، سبقا ليس عصريهما فقط، بل ما زال يمارسان فعل التقدم والحداثة حتى الآن. وسبب تميّز الشاعرين بسيط وعميق في آن واحد، وهو البعد عن التقليد، والتعبير الصادق عن المشاعر والأفكار؛ لذلك فكلاهما لم يجدا ضرورة للبدء بالبكاء على الطلل، كما لم يتكلفا لا المدح ولا الفخر ولا الرثاء ولا الهجاء، بل عبرا عما يشعران به على الحقيقة.

فإذن لا للبكائيات، عنوان جاذب لكل من يسعى إلى الأفعال أيضا، بعدما شبع الفلسطينيون بكاء الآخرين أشقاء وأصدقاء، وبعدما شبعوا هم أيضا من البكاء؛ ولعل الشاعر امرؤ القيس بعبارته الشعرية الخالدة " اليوم خمر وغدا أمر" قد أسس ثقافيا مفهوم الفعل لا القول؛ فبالرغم أنه لم يكن أكبر أخوته إلا أنه هو عزم الانتقام من قتلة أبيه، فهو الوحيد الذي لم يبك ولم يجزع فور وصول الخبر إليهم. وبالرغم من مرّ عتابه لأبيه المغدور على يد قبيلة بني أسد "ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا. لا صحو اليوم ولا سكر غدا. اليوم خمر وغدا أمر" إلا أنه صمم على الثأر.

وعليه فإن هذا المدخل الثقافي لحديث سياسي له ما يبرره، كي نفكر معا، لأننا جميعا عرضة لنجاح جزئي في الإتيان بما هو جديد، خصوصا في ظل التعليق على مقال دكتور فيّاض، لأن كلامنا في أفضل الأحول هو من قبيل "قول على قول"، فالفضل للقول الأول، متذكرين خلال ذلك رحلة الفلسطيني في الأرض اليباب وهو ينشد خلاصه الجمعي والفردي.
على غير ما أحببنا في الشنفرى وأبي نواس في البدء بالموضوع مباشرة، إلا أننا وقعنا بما وقع به الكثيرون، فلا عتب!
فكر سياسي وطني ملتزم وعملي في سياق استراتيجي تحرري هو ما وصفنا به مقاله قبل الأخير الذي تمحور حول إدارة التعددية قبل أشهر، ونضيف هنا بأنه فكر شجاع بإقراره بفعل انتفاضة الشباب والشابات كحلقة من حلقات الاحتجاج على الاحتلال، وبالبحث عن سبل إسنادهم. أما الاقتراحات الوطنية في مقاله الجديد فهي:

- تأكيد المنظمة على التمسك بالحقوق الوطنية التي تكفلها الشرعية الدولية، لإعادة تجميع الفلسطينيين وتوحيدهم، في ظل المناداة بالندية والتكافؤ بين الشعب الفلسطيني والاحتلال..
- إنهاء الانقسام.
- إدماج غزة في النظام السياسي الفلسطيني.
- إدارة التعددية بتفعيل الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، يشمل الفصائل غير الموافقة على برنامجها، أي حماس والجهاد. في ظل صعوبة " بلورة رؤية سياسية تحظى مكوناتها وعناصرها بدرجة عالية من التوافق الوطني"، تتمكن المنظمة في ظل ذلك من الحفاظ على برنامجها وتمثيل كل الفلسطينيين"، يتبعه انتخابات.
- تزامن بين دعم الصمود خصوصا في القدس وإعادة إعمار غزة، وبين "موضوع الهدنة الذي تم تداوله مؤخرا فيما يتعلق في قطاع غزة، وبما يمهّد لاستصدار قرار من مجلس الأمن يحدد سقفا زمنيا مؤكدا لإنهاء الاحتلال بنهاية مدة الهدنة". في ظل الظلم التاريخي لفلسطين، بما فيها عملية السلام باختلالها "في ميزان القوة المحتلة والشعب الواقع تحت الاحتلال"

لقد كانت عبارة د. سلام فيّاض التي جاءت في ظل الدعوة لتفعيل الإطار القيادي المؤقت للمنظمة إبداعية وعلمية "لا يجوز القبول بواقع يقضي بالتزام كافة مكونات النظام السياسي الفلسطيني بأمر لا يوافق عليه مجرد عضو واحد في الحكومة الإسرائيلية".
وبذلك يصبح موضوع الدولة أمرا تاليا لإنهاء الاحتلال، وهذا هو الأمر الفعلي حتى يكون الكيان الفلسطيني تحت الاحتلال بسيادة منقوصة. حكومة إعمار غزة ودعم المقدسيين وحكم رشيد هو ما يهيئ لمرحلة الاستقلال.

إن إسناد الانتفاضة وفقا للدكتور سلام فيّاض إذن هو إسناد عميق، سواء بالإسناد السياسي الذي يرتقي للفعل، من خلال تنفيذ المقترحات السابقة، أو دعم جهود دحر الاحتلال، ودعم القدس ودعم بقاء الفلسطيني في مناطق ج بما فيها الأغوار، وإذكاء روح المشاركة الشعبية وصولا إلى دولة المؤسسات.
وعليه، فإن رؤيته الوطنية للانتفاضة ينبغي أن تثير نقاشا وطنيا ملتزما، فهو قد نادى بعدم قولبتها، وعدم تحميلها ما لا طاقة لها به، وعدم احتوائها، وأظن أن تلك الرؤيا تحظى بإجماع، بل أن صناعها وصانعاتها يؤمنون بذلك.
هي رؤية جديدة قديمة تتجدد مع الشعور الوطني النبيل بضرورة إسناد الانتفاضة.

والمنتفضون أيضا لهم رؤيتهم النقدية سياسيا واقتصاديا، ففي توصيفه لهم يقول "هناك الكثير من القنوط من الوضع القائم وتعاظم في الشعور بعدم الرضا إزاء توفر ما يكفي من المنافع والفرص وعدالة توزيع ما هو متاح في ظل الاحتلال والانقسام وضعف عام في الأداء".
لقد كان نقد د. فياض للحالة السياسية نقدا موضوعيا مستجيبا أيضا لما يشعر به قطاع الشباب، فالتحلي بالتفكير النقدي سياسيا هو صفة وطنية، لتطوير الأداء من جهة، ولإسناد القضية الوطنية، بما يتجدد فيها أي حراك وطني.
ومن اللافت للنظر تحليل د. فياض لحالة الشباب الذين"يعودون للأصول بفعل حديث الأجداد والجدات" وامتلاكهم القدرة في ظل ثورة المعلومات، إضافة للمساواة بين الشباب والشابات على الأرض.

لقد تمحور مقال-مبادرة دكتور فياض على الوحدة، وتحقيق العدالة، في ظل نسق في السياسة والحكم يعمل على تنظيم الفلسطينيين شعبا وفصائل عمل وطني. لذلك وجدناه يشير إلى مفهوم المناضل الراحل د. حيدر عبد الشافي بالحاجة "للوحدة والعدالة والنظام كشرط لإنهاء الاحتلال واسترداد الحقوق.
إنها إذن دعوة الجميع، من قوى سياسية واجتماعية ونخب فكرية وثقافية وبحثية لنقاش الأفكار الواردة في المقال، بما تستحقه اللحظة وتفرضه من تحديات وما توفره من فرص.

بل هي فرصة لتأمل ما يقدمه المقال من تفكير سياسي إبداعي من خلال ما حلله من محطات فلسطينية ثورية وسياسية، بما له علاقة بالتحرر والدولة، عبر أسلوب مشوّق، فبالرغم من تأكيده على ما ذكره عن إدارة التعددية السياسية من قبل ، إلا أنه استطاع استدعاء التاريخ من جهة واستدعاء اللحظة الراهنة، حيث أزعم أنه أضاف للأدبيات السياسية من تأمل عميق، قابل للبناء عليه من فعل وطني تحرري.
حين عدت لقراءة معلقة عنترة وقفت عند بعض الأبيات:
منها: يُخبرْك من شَهدَ الوقيعَة َ أنني أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم
فوجدته تعبيرا عن حالة النبل السياسي.
أما حالة النفي فنراها في هذين البيتين:
نِبِّئتُ عَمرواً غَيرَ شاكِرِ نِعمَتي وَالكُفرُ مَخبَثَةٌ لَنَفسِ المُنعِمِ
الشَّاتِمِيْ عِرْضِي ولم أشْتِمْهُما والنَّاذِرَيْنِ إذا لم ألقهما دَمي
وأخيرا لعلنا نتجاوز ذواتنا وذاتيتنا لما هو موضوعي ووطني، لنرتقي لفعل المسؤولية.