الثلاثاء: 16/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الفلسطينيون وتراجيديا الغربة والسفر

نشر بتاريخ: 18/01/2016 ( آخر تحديث: 18/01/2016 الساعة: 10:17 )

الكاتب: د.ابراهيم أبراش

لأنه لا قياس مع وجود فارق، ولا مقارنة بين قضايا مختلفة بطبيعتها ومنطلقاتها، فإنه بسبب الجريمة الصهيونية الأولى باحتلال فلسطين وتشريد شعبها، فإن الشعب الفلسطيني الشعب الوحيد في العالم المُهدَد بوجوده الوطني، والذي يعيش نصفه داخل الوطن الفلسطيني الخاضع للاحتلال والنصف الآخر يعيش مُجبرا خارج الوطن، ليس هذا فحسب، بل إن نصفه الذي يعيش داخل فلسطين موزع بين ثلاث (كيانات) سياسية، منفصلة عن بعضها ومتعادية أو متخاصمة، ونصفه الآخر موزع بين كل دول العالم .

لا شك أن كثيرا من الشعوب تعرضت لمآسي بسبب الحرب أو الكوارث الطبيعية وآخرها ما تشهده سوريا واليمن من حروب وهجرة للسكان وصعوبات سفر وإقامة الخ، ولكن مصائب ومآسي هذه الشعوب عابرة ومؤقتة، أما مأساة الفلسطينيين فممتدة طوال سبع وستين عاما بل قبل ذلك منذ احتلال بريطانيا لفلسطين نهاية العقد الثاني من القرن العشرين. إنها معاناة السفر والتنقل والإقامة، معاناة تحولت إلى تراجيديا غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، تراجيديا بما تعنيه الكلمة من معنى.

لمفردات الهجرة واللجوء والإقامة في الحالة الفلسطينية معنى يختلف في سياقه التاريخي والسياسي والإنساني عما هو معروف عند شعوب الأرض، ويختلف عن دلالاته وتوصيفه في المواثيق الدولية. وارتباطا بذلك فإن سفر وتنقل وإقامة الفلسطيني يندرج في سياقات مختلفة عما هو الحال لمواطني الدول الأخرى ، حتى داخل فلسطين فهو غير حر وآمن في إقامته وتنقله بل غير متأكد إن كان سيستمر في العيش في البيت الذي يسكنه والذي ورثه عن آبائه وأجداده، أم ستهدمه غارة أو جرافة إسرائيلية، أو سيستولي عليه المستوطنون .

أحيانا يسافر الفلسطيني، كبقية الناس من الجنسيات الأخرى، طلبا للسياحة أو النزهة أو تقضية إجازة، ومن حقه ذلك ما استطاع إليه سبيلا، ولكن غالبا ما تكون حاجته للسفر ضرورة حياتية لوصل صلة الرحم بين العائلات المشتتة حيث لا أسرة إلا ولها أبن أو أخ أو أب في الغربة، أو السفر للعلاج حيث القطاع الصحي غير مهيأ للعلاج والتعامل مع كثير من الأمراض والحالات المستعصية بسبب الاحتلال والحصار وخصوصا في قطاع غزة ، أو مضطرا للسفر للتعليم أو للعمل حيث إن ظروف الاحتلال وقهره ضيَّقت من فرص التعليم والعمل .

نتج عن هذا الواقع، بحكم الضرورة، خصوصية جواز السفر ورمزيته بالنسبة للفلسطيني. فمنذ 1948 إلى حين قيام السلطة الفلسطينية 1994 حمل الفلسطينيون جوازات سفر كثير من دول العالم إلا الجواز الفلسطيني، الذي ارتبط وجوده بوجود الدولة وبالتالي كان حلما كحلم الدولة. غالبية الفلسطينيين حملوا إما الجواز الأردني أو وثائق سفر للاجئين كانت تصدرها مصر وسوريا ولبنان والعراق، وبقيتهم حملوا جوازات سفر البلدان التي تجنسوا بجنسيتها، وآخرون لم ينالوا حظوة الحصول على جواز سفر وبالتالي لم يغادروا مدنهم وقراهم في فلسطين أو مكان لجوئهم الأول بعد النكبة، إلى حين مماتهم .

وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين كانت تصدرها الدولة المصرية لأبناء قطاع غزة لا تمنح حاملها الحق بالإقامة في مصر!، ووثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين تصدرها الدولة اللبنانية لا تمنح حاملها الحق بالعمل في 70 وظيفة ولا تمنحه الحق بالعودة للبنان إن غادرها !، ووثيقة سفر سورية للاجئين المقيمين في سوريا كان حالهم أفضل من غيرهم قبل أن تجتاحهم تداعيات الحرب الأهلية، ووثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين كانت تصدرها الدولة العراقية أصبحت لعنة على حاملها بعد سقوط نظام صدام حسين !، وجواز سفر أردني لفلسطينيي غزة في الأردن لا يمنح حامله حقوق المواطنة، ومن حمل منهم الجنسية الأردنية يعيش صراعا داخليا ما بين الولاء للأردن أو الولاء لفلسطين ولكل ولاء ثمن يجب دفعه !، وكل أشكال جوازات السفر التي يحملها الفلسطينيون العاملون في دول الخليج العربي لا تمنح أبنائهم عند بلوغهم سن الرشد الحق بالإقامة أو العمل أو التعليم في البلد حيث يقيم ذووهم ، إلا في أضيق الحدود، وفي غالبية المطارات العربية على الفلسطيني انتظار موافقة الجهات الأمنية قبل السماح له بالدخول أو حتى المرور لبلد آخر .

لكل فلسطيني قصة وحكاية مع السفر وجواز السفر والإقامة, مآسي فلسطينيي لبنان لا تقل عن مآسي فلسطيني سوريا، ومأساة هؤلاء شبيهة بمأساة فلسطينيي العراق الذين وبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 انتهكت الميليشيات أعراضهم وصادرت ممتلكاتهم، ونفس المصير كان قبل ذلك لفلسطينيي الكويت عام 1991، ولم يكن مصير فلسطينيي ليبيا بالأفضل عندما قرر معمر القذافي عام 1993 أن يرد بطريقته الخاصة على توقيع اتفاقية أوسلو فرمي الآلاف من الفلسطينيين المقيمين في ليبيا وغالبيتهم من فلسطينيي قطاع غزة إلى الصحراء وبعضهم إلى البحر، ليعيشوا لأشهر جحيم الصحراء والجوع !.

وحتى عندما تأسست السلطة، حمل فلسطينيو الضفة وغزة فقط الجواز الفلسطيني ، ولأنه جواز صادر عن السلطة الفلسطينية بمقتضى اتفاقية تسوية مع إسرائيل فقد حُرم حامله من دخول بعض البلدان العربية والإسلامية. نصف الشعب الفلسطيني في الغربة لا يشفع له نوع جواز سفره أو البلد التي أصدرته في دخول فلسطين المحتلة وحتى مسقط رأسه إن كان في الضفة أو غزة إن لم يكن يحمل هوية ورقما وطنيا مسجلا عند سلطات الاحتلال، أو تصريح إسرائيلي يسمح له بزيارة وطنه وأهله لأيام فقط !.

لامست السلطة الوطنية في بداياتها تخوم فكرة الوطن والدولة، حيث اصطنعت أملا، إن لم يكن بالعودة فعلى الأقل بتفكيك عقدة الغربة وإتاحة الفرصة لزيارة الوطن أو الموت فيه و الدفن في ثراه، وكان صدور جواز السفر الفلسطيني منعطفا مهما لكثير من الفلسطينيين وخصوصا سكان قطاع غزة. ما لم يخطر على البال أن تتحطم آمال فلسطينيي قطاع غزة بالتنقل والسفر من وإلى الأراضي المحتلة، ليس على يد الإسرائيليين فقط، بل بأياد عربية وأحيانا فلسطينية.

كم من السهل تحميل الاحتلال مسؤولية حصار قطاع غزة وعذابات سفر مواطنيه، ولكن علينا الاعتراف والتذكير بأنه مع تأسيس السلطة الوطنية وفي ظل الاحتلال كان معبر رفح وبقية المعابر مفتوحة على مدار الساعة، بل كان لدينا مطار ومشروع بناء ميناء في قطاع غزة، ولكن كل شيء تغير إلى الأسوأ مع الحصار والانقسام وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة.

فكأنه لا يكفي الفلسطينيين في قطاع غزة ما يعانونه من ممارسات الاحتلال العدوانية وتداعيات الحصار والشروط السياسية والقيود الأمنية التي تضعها إسرائيل ومصر وأحيانا الأردن للخروج والدخول من المعبرين الوحيدين المسموح لهما بالتحرك والتواصل مع العالم الخارجي، فيأتي الانقسام والصراعات الفلسطينية الداخلية لتقف عقبة أمام كل محاولة للتخفيف من معاناة فلسطينيي قطاع غزة, وأصبحت معاناة أهل غزة تشكل تراجيديا جديدة تضاف لتراجيديا النكبة والغربة والشتات، تراجيديا تُشَكِل مادة خصبة لأدب جديد قيد التبلور، أدب تتغلغل بين ثنايا مفرداته وتعبيراته ثقافة الخوف ، خوف من السجن والاعتقال وخوف على الراتب وخوف من المنع من السفر، مع كثير من الغضب الواضح أحيانا والمُضمر في كثير من الأحيان، مع قليل من الأدب الساخر حيث يستعمل الكاتب لغة شعبية بسيطة مفخخة بالتورية ويترك للقارئ وشطارته في فهم معناها ودلالاتها .