الإثنين: 04/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

هل تملك الجولة القادمة من الحوار الفلسطيني فرصة للنجاح؟‎

نشر بتاريخ: 26/01/2016 ( آخر تحديث: 26/01/2016 الساعة: 12:05 )

الكاتب: هاني المصري

بتدخل قطري، سيعقد في الدوحة اجتماع (فتحاوي حمساوي) في الأسبوع الأول من شباط للبحث مرة أخرى في إمكانية تحقيق المصالحة، وإذا حققت الجولة تقدمًا سيتلوها لقاء على مستوى القمة.

هل ستحقق الجولة القادمة نجاحًا، أم ستكون مناورة اضطرارية سرعان ما تفشل بالاتفاق على خطوات جديدة؟ هل سيكون مصيرها أفضل من "النجاحات" السابقة؟ فقد شهدنا توقيع اتفاقات، وبدء الشروع في تطبيقها ثم انهيارها، فكلنا يذكر ما حصل بعد "اتفاق مكة"، إذ تم تشكيل حكومة وحدة وطنية لم تعمر سوى ثلاثة أشهر، وكذلك مصير حكومة الوفاق الوطني التي شكلت بعد "إعلان الشاطئ" ولم تعد حكومة وفاق منذ فترة طويلة؟

ليس خافيًا على أحد أن الاهتمام بالمصالحة بات ضئيلًا، لأن الشعب والقوى والأصدقاء والحلفاء سئموا من أخبار الحوارات والاتفاقات التي لا تطبق، بينما القضية تضيع، والقدس تضيع، ما أدى إلى قيام الشعب بتفجير موجة انتفاضية للشهر الرابع على التوالي من دون قيادة ولا أهداف، بحيث انطلقت انتفاضة أفراد واستمرت كذلك، ما جعلها تستحق أن يطلق عليها "انتفاضة يتيمة" لتكون ضحية جديدة من ضحايا الانقسام.

إذا أخذنا التطورات التي نعيشها والظروف المحيطة بِنَا، نجد أن العوامل التي تدعو إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة تتزايد بصورة ملحوظة، فالكل الفلسطيني في مأزق يتفاقم باستمرار، وهذا أمر بات يعترف به الجميع بصراحة وعلى الملأ من دون تحميل المسؤولية بالكامل للطرف أو الأطراف الأخرى، بل بات كل طرف يحمّل نفسه قدرًا من المسؤولية. كما أن الرهان على انهيار الطرف الآخر بسبب انهيار ما يسمى "عملية السلام" وتكثيف العدوان والاستيطان والعنصرية وانغلاق الأفق السياسي تمامًا لم يتحقق، فعوامل بقاء "فتح" والسلطة التي تقودها، ولو بالاسم، أقوى مما يعتقد البعض بالرغم من التآكل المستمر للأرض والحقوق والمؤسسات ولما تبقى من شرعية.

كما أن الرهان على سقوط "حماس" لم يتحقق على أساس أن سقوط الاخوان المسلمين في مصر وهبوطهم في المنطقة سيجر معه انهيار "حماس" أو سلطتها، خصوصًا بعد تردي علاقتها مع مصر، وإغلاق الأنفاق، واستمرار تردي علاقتها مع إيران وسوريا، وعدم نجاح محاولاتها لإصلاح علاقتها مع السعودية. فعوامل بقاء "حماس" بالرغم مما سبق قوية، أهمها أنها صمدت في وجة العدوان الإسرائيلي الذي شن ثلاثة عدوانات غاشمة على قطاع غزة، وأفشلت أهداف العدو، وتستمد قوة مستمرة من فشل اتفاق أوسلو والرهان على المفاوضات والولايات المتحدة الأميركية، وكذلك من دخول منافستها حركة فتح في صراع حام على خلافة الرئيس. ولعل كل ما سبق يفسر لماذا تزايدت شعبية "حماس" كما أشارت الاستطلاعات الأخيرة، لدرجة أنها تضمنت مساواة في النسبة التي حصلت عليها كل من "فتح" و"حماس" (٣٥٪ لكل منهما)، إضافة إلى تفوق إسماعيل هنيّة على محمود عباس في انتخابات رئاسية قادمة.

إضافة إلى ما سبق، إنّ الأوضاع العربية والإقليمية والدولية، بما في ذلك بدء البحث عن حلول سياسية للأزمات التي تشهد تطورات ومتغيّرات متلاحقة، تجعل العرب ودوّل الإقليم والعالم مشغولين بقضايا أخرى، منها ما يتعلق بالدفاع عن عروش أنظمة، أو بقاء بلدان ومنع تقسيمها أو انهيارها، أو دفاعًا عن مصالح ونفوذ وسعيًا لأخذ حصة في خارطة المنطقة الجديدة، وهذا بالرغم من ضرره لما يؤدي إليه من تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية ومن تمكين إسرائيل من الاستفراد بها، إلا أنه قد ينطوي على أمر حسن إذا التقط الفلسطينيون الفرصة بانشغال العالم عنهم لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وترتيب بيتهم، واستعادة أوراق القوة والضغط التي يستطيعون استعادتها، انطلاقًا من عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، واستعداد الشعب الفلسطيني رغم الضحايا والويلات والأخطاء والخطايا وحجم الأخطار والأعداء للكفاح والدفاع عن أرضه ووجوده وحقوقه مهما طال الزمن وغلت التضحيات.

يتوقف نجاح أو فشل الجولة الجديدة من الحوار الثنائي (الفتحاوي الحمساوي) على: هل سيعتمد على نفس الصيغ والأفكار والقواعد التي حكمت الاتفاقات والتجارب السابقة، أم سيستخلص الدروس والعبر منها، وهذا يقتضي التوقف بعجالة عند جذور الانقسام وأسبابه وكيفية السعي سابقًا لحله، وكيف يمكن إنجاح التجربة الجديدة إذا كانت لها فرصة في النجاح؟

يعود الانقسام إلى الخلافات البرامجية والأيديولوجية والتدخلات الإقليمية والعربية والدولية، وإلى أن القضية الفلسطينية ولدت ولا زالت قضية دولية، بحيث وضع العالم إسرائيل على خارطة المنطقة ويستمر بحمايتها رغم كل ما تشكله من أخطار على الأمن والاستقرار الدولي، وفرض على الفلسطينيين إذا أرادو الوحدة الالتزام بشروط اللجنة الرباعية المجحفة من دون أن يفرض شيئًا على إسرائيل، وبحكم أن السلطة تعتمد على المنح والمساعدات الخارجية كان وسيكون للدول المانحة، وخصوصًا الولايات المتحدة وأوروبا، دور مهم في تحقيق إفشال جهود المصالحة. كما تلعب إسرائيل دورًا مهمًا في استمرار الانقسام وتعميقه، لا سيما أنها لعبت دورًا في وقوعه، لأن الاحتلال صاحب السيادة ومتحكم بأعناق السلطة وأرزاقها.

من الأسباب التي أدت إلى استمرار الانقسام وتعميقه أن المحاولات التي جرت لإنهائه، كما ظهر في الاتفاقات وكيفية تطبيقها، ركّزت على انتقاء نقاط من الاتفاقات وإهمال النقاط الأخرى، وعلى الجوانب الشكلية والإجرائية أكثر بكثير مما ركزت على القضايا الجوهرية، فقد ركزت على تشكيل الحكومة، وعلى إجراء الانتخابات من دون إجرائها، وعلى الأمن من دون الاقتراب منه. فقد تم الاتفاق على تأجيل تطبيق الجانب الأمني إلى ما بعد الانتخابات، وهذا وصفة مضمونة للفشل. هذه القضايا هي من أكثر القضايا التي يمكن أن يتدخل فيها ويؤثر عليها الاحتلال.

إن إهمال المضمون السياسي للمصالحة هو الخلل الرئيسي في الاتفاقات، إذ تم الفصل بين الوحدة المنشودة وبين أهدافها، وهل هي لتكريس الأمر الواقع (سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال، أم سلطة كأداة للمنظمة وضمن منظمومة كاملة وإستراتيجية ترمي إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق بقية أهداف الشعب). فقد تم تجاهل أمر الاتفاق على برنامج سياسي ونضالي، بحجة وجود خلافات تارة، أو لأنه من اختصاص منظمة التحرير تارة أخرى، أو لأن الاتفاق عليه سيؤدي إلى مقاطعة وعقوبات إسرائيلية وأميركية، وربما أوروبية ودولية، تارة ثالثة. كيف يمكن أن تكون هناك وحدة من دون مشاركة وطنية في قرار السلم والحرب، وتعريف السلطة وإعادة تشكيلها وعلاقتها بالمنظمة؟

كما تم تأجيل ملف منظمة التحرير بالرغم من أنه المدخل الطبيعي لإعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل ولإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، لأن الحديث يجب أن يدور عن الشعب الفلسطيني بأسره كون المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد، وحتى تكون كذلك قولًا وفعلًا؛ يجب إعادة بناء مؤسساتها في ضوء المعارف والخبرات المكتسبة والمتغيرات والحقائق الجديدة، لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي.

ومن أسباب الانقسام أيضًا وجود قطبين متوازيين، ويكادان أن يكونا متساويين في القوة والنفوذ، وعدم قدرة طرف على هزيمة الطرف الآخر عسكريًا أو أمنيًا، وسعي كل منهما لإقصاء الطرف الآخر، أو في أحسن الأحوال احتوائه في إطار قيادته، بحيث مطلوب من "حماس" أن تشارك في السلطة وحتى في منظمة التحرير كأقلية من دون تهديد لقيادة "فتح"، بدليل مطالبة "حماس" بالتخلي عن سلطتها في غزة، والموافقة على برنامج المنظمة، وأحيانًا برنامج الرئيس أولًا، وبعد ذلك يمكن النظر في كيفية مشاركتها، أي مطلوب أن تعطي "حماس" ما لديها مقابل القبول بأن تكون شريكًا صغيرًا في أحسن الأحوال.

بينما تعطي "حماس" الأولوية المطلقة للحفاظ على سلطتها وتحقيق إنجازات إضافية، فهي رغم تخليها عن حكومتها، إلّا أنها أبقتها في الظل من خلال تمسكها بمفاتيح الحكم والقوة والنفوذ في قطاع غزة، وبالرغم مطالبتها بحل الأزمة الشاملة إلّا أنها تركز على عقد الإطار القيادي، وأكثر على حل مشكلة رواتب الموظفين الذين عينتهم، وإعادة الإعمار وفتح معبر رفح شريطة بقاء سلطتها وسيطرتها من دون إعطاء الاهتمام اللازم لإعادة بناء النظام السياسي كله على أسس وطنية وديمقراطية تشاركية وشراكة حقيقية. كما تستعد "حماس" إذا لم تتحقق المصالحة وفق شروطها للتفاوض مع إسرائيل بصورة غير مباشرة للحفاظ على سلطتها ضمن معادلة "هدوء مقابل هدوء"، حتى لو وصل الأمر إلى إقامة ميناء عائم مقابل هدنة طويلة مع الاحتلال، ما يعني أن الهدف البقاء على السلطة انتظارًا لتغيّر الظروف، بحيث تسمح بتوليها قيادة المنظمة والسلطة، وخصوصًا إذا انهارت "فتح" تحت وطأة فشل أوسلو وصراعاتها الداخلية التي تزايدت على وقع بدء معركة خلافة الرئيس.

ومن أسباب الانقسام الأخرى عدم إدراك الخصائص والظروف الخاصة التي تميز الضفة عن غزة وبالعكس، بعد أكثر من ٢٥ عامًا من الفصل الإسرائيلي ما بين الضفة وغزة الذي بدأ قبل اتفاق أوسلو" وتكثف بعده، ووصل الذروة في تطبيق خطة فك الارتباط التي هدفت إلى أهداف عدة، أهمها قطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية، وإحداث الانقسام السياسي والجغرافي، والتخلص من العبء الديمغرافي، ورمي قطاع غزة في حضن مصر، والتقدم عشر خطوات في تهويد واستيطان الضفة وقطع الطريق على أي مبادرات أو حلول مرفوضة أو لا تحقق كل الأهداف الإسرائيلية.

إن "الانسحاب" الإسرائيلي من القطاع أوجد نوعًا من مساحة الحركة نسبيًا ومن الاختلاف في الظروف بين الضفة وغزة يجب أخذه بالحسبان، مع أن القطاع لا يزال محتلًا، ولكن من خلال الحصار والعدوان وكل أشكال التدخل التي تجعل حياة القطاع جحيمًا لا يُطاق.

وأخيرًا، ساهم في استمرار الانقسام أن الحوار لإنهائه والاتفاقات التي وقعت كانت ثنائية من دون مشاركة حقيقية من الشعب، بما في ذلك القوى والقطاعات والفعاليات الأخرى، ما استدعى بقوة المصالح الفئوية والمحاصصة الفصائلية.

إن نجاح الجولة القادمة يستدعي أخذ ما سبق بالحسبان، بحيث يجري الحوار من أجل رزمة شاملة ضمن رؤية جديدة تناسب المرحلة الجديدة التي بدأت تطل برأسها ولم تولد بعد، ووضع خارطة كاملة وليس الاتفاق على خطوات مجتزأة جُرّبت وفشلت، فلا يمكن اقتصار الاتفاق على: أولًا، تشكيل حكومة حتى حكومة وحدة وطنية لا تقوم على أساس متين يمكّنها من الصمود في وجه التطورات وصعوبات التطبيق والحكم في ظروف استثنائية. وثانيًا، التوجه إلى إجراء انتخابات، فهذا يمثل إعادة إنتاج للتجارب الفاشلة التي سيؤدي فشلها مجددًا إلى عواقب أوخم. فأي حكومة ستشكل: حكومة سلطة الحكم الذاتي، أم حكومة الدولة المعترف بها أمميا؟ وهل ستلتزم باتفاقات أوسلو التي تهدد وتحذر حتى قيادة المنظمة من استمرار الالتزام بها، وهل ستكون حكومة مواجهة أم تعايش مع الاحتلال أم ماذا؟ يقال لك إنها يمكن أن تشكل جدار استناد أو حماية في حال وفاة الرئيس أو استقالته، في حين أنها محكوم عليها بالفشل، لأنها بناية تبنى من فوق من دون أساس، وستنهار أمام أي خلاف على السلطات والصلاحيات،خصوصًا الأمنية، في ظل مخلفات الانقسام الثقيلة، أو إذا نفذت عملية مقاومة يسقط فيها قتلى إسرائيليون، أو أمام أي تطور سياسي متوسط وليس كبيرًا.

وكيف سنجري الانتخابات بعد تسعة سنوات على الانقسام الذي تعمق أفقيًا وعموديًا وأوجد أوضاعًا سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية وأصحاب مصالح وبنية متكاملة ومناخات من عدم الثقة، من دون فترة انتقالية لبناء الثقة والاتفاق على أسس الشراكة الكاملة التي هي مفتاح تحقيق الوحدة على أساس وطني وديمقراطية توافقية، والاتفاق على عقد اجتماعي جديد يستند إلى الرواية والحقوق التاريخية، والاتفاق على أهداف المرحلة الراهنة من دون التخلي عن الأهداف النهائية، وأخذ العبر والدروس من التجارب الفلسطينية، وتحديد القواسم المشتركة التي هي أكثر مما يفرق ولا تلغي ولا يمكن أن تلغي التعددية بمختلف أشكالها التي كانت وستظل مصدر المناعة والقوة والاستمرار للقضية الفلسطينية.

تأسيسًا على ما سبق، لا بد من الانطلاق من الاقتناع أولًا بأن أي خطوة نحو الوحدة بسبب ظروف اضطرارية للطرفين، أو جراء خلافات داخلية على خلفية الصراع على الخلافة ستنهار بتغير الظروف، وثانيًا بأن إنهاء الانقسام عملية تحتاج إلى وقت ولا تتحقق بضربة واحدة، ومن أهمية بمكان الخروج باتفاق كامل يحدد نقاط الاتفاق والخلاف وأشكال العمل المشترك، وبصيغة يخرج منها الجميع منتصًرًا "لا غالب أو مغلوب"، وعدم الاستجابة للضغوط الخارجية أو الداخلية من أصحاب جماعات مصالح الانقسام مع مراعاة قدر الإمكان أن يكون الاتفاق قابل للتسويق دوليًا دون الخضوع للإملاءات وشروط اللجنة الرباعية، وتوسيع مساحة المشاركين في الحوار بحيث تشارك قطاعات أخرى، وعدم الاقتصار على الفصائل، إضافة إلى تأمين مشاركة الشباب والمرأة وممثلين لشعبنا في الشتات، وتنظيم حوار مستمر، وكل هذه النقاط مهمة وتساعد على النجاح.

الاتفاق على البرنامج السياسي والنضالي هو نقطة البداية، على أن نعرف سلفًا بقية الخطوات والمراحل والجداول الزمنية التي يجب خلق حاضنة سياسية وشعبية لضمان تطبيقها، وضمن رؤية تحدد أين نقف، وإلى أين نريد أن نصل، وكيف سنحقق ما نريد؟

كل ما سبق يشير إلى أن الوحدة المطلوبة لا يمكن أن تتحقق إذا استمرت نفس الأفكار والأوضاع وأساليب العمل وقواعد اللعبة واللاعبين، بل يجب أن يتدخل لاعبون جدد يمثلون إرادة الأغلبية الساحقة التي تؤمن بأن الوحدة باتت قانون حماية الوجود والاستمرار، وليس قانون الانتصار فقط. وإلى أن يحدث ذلك أي خطوة نحو الوحدة أفضل من لا شيء.