الجمعة: 03/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

الاغتصاب الفكري والنسر الفلسطيني

نشر بتاريخ: 28/01/2016 ( آخر تحديث: 28/01/2016 الساعة: 19:04 )

الكاتب: زاهر ابو حمدة

يغتصب رجال السياسة والدين عقول الجمهور. يمنعون تفصيل التأصيل ولكل فكرة شرح خاص، ولكل فعل تبرير معين. يمارس المجتمع، المدرسة، الأسرة، الاعلام، وغيرهم اغتصابا فكرياً واضحاً. لذلك قليلون من نجوا من هذا الاغتصاب اللعين، فأصبحوا مرفوضين من الغاصبين.

يصل حدّ الرفض إلى التخوين أو التكفير. لكن جُل الفلسطينيين تمردوا على اغتصاب الاحتلال فكرياً وجسدياً. والأهم أنهم خرجوا من عباءة الفصائل وخطابات القادة. في داخل كل فلسطيني مقاتل يبقى يقاتل سلطة الاحتلال، سلطة ماجد فرج، سلطة فتحي حماد، سلطة الاونروا، سلطة الحكومات العربية..

لم يقتنع الفلسطيني يوماً بالمذهبية أو الطائفية، فصدّروها في أحيان كثيرة. نجحت في بعض الازقة لكنها فشلت في أحيان كثيرة. وقاوم الفلسطيني الأسرلة، على الرغم من أن بعض الفلسطينيين يدافعون عن بنيامين نتنياهو، أكثر من الشهيد نشأت ملحم. ولعل غالبية دروز فلسطين يهمهم رضى الكنيست والكابينت أكثر من الأقصى أو جبل الكرمل.

يقاوم الفلسطيني منذ "وعد بلفور" عام 1917 بكل أشكال البقاء. الخطورة كانت باغتصاب الذاكرة والرؤية الفلسطينية. استطاع اللاوعي الفلسطيني أن يدمّر كل حصون الاستراتيجية القائمة على "كبارهم يموتون وصغارهم ينسون". حين قالها وزير الخارجية الأميركية جون فوستر دالاس، مطلع الخمسينيات، لم يكن يعلم أن مهند حلبي، سيطلق انتفاضة الأفراد. تحوّل الفرد الفلسطيني إلى جماعة. كفر بفصائله واجنحتها السياسية والعسكرية. ابتكر اسلوبه الخاص في المقاومة: طعن، دهس، قنص، وقريباً تتصاعد لنرى الحرق. هل يتحمل موشي يعالون، فكرة أن يرن هاتفه ليخبروه أن مجمعات رامي ليفي التجارية شب فيها حريق مفتعل؟. الخيارات كثيرة. العطاءات أكبر. اذاً الاغتصاب الفكري، السياسي، الاقتصادي، العسكري؛ ممنوع وكل ما مفروض مرفوض.

حالة الفلسطينيين، تشبه حالة اليهود قبل الحرب العالمية. مشتتون. منبوذون في اماكن كثيرة. ناجحون على المستوى الفردي. فاشلون على المستوى الجماعي. لديهم شركات وأثرياء. لديهم فقراء ومهمشين. فيهم عباقرة وصلوا، ومنهم من ينتظر الفرصة. بينهم من استوطن الفنادق، وآخرون يبنون الخنادق. منقسمون حول مسؤولية البنادق. منقسمون حول كل شيء حتى النشيد الوطني والعلم. ملتصقون بالقضايا الكبرى بين مؤيد ومعارض، لأن الفلسطيني يرفض بطبعة لعبة الحياد. يعشق دوما أن يكون لاعباً اساسياً حتى لو تعلقت المسألة بثقب "الأوزون".

الفلسطينيون رفضوا كل أشكال الاغتصاب، ويعبدّون طريقهم دوماً بطرقهم الخاصة المبتكرة. وحالتهم اليوم تشبه وضع النسر عند انتصاف العمر.

يعيش النسر أكثر من 80 عاماً. وعند سن الأربعين يتحول إلى أشبه بدجاجة في مزرعة. لذلك عليه أن يتخذ قراراً صعباً. يثقل ريشه، يضعف ويُقوّس منقاره. يطير إلى قمة عالية. يضرب منقاره بصخرة قوية حتى يكسره. وحين ينمو منقاره الجديد ينتف ريشه. وبعدها بمئة وخمسين يوماً يصبح قادراً على التحليق مجددا. 

عملية قاسية ومؤلمة جداً يخوضها النسر ليبقى على قيد الحياة. وأطبقت انتفاضة القدس المئة والخمسين يوماً. استشهد خلالها أكثر من 160 فلسطينياً من بينهم 40 طفلاً. وقتل ما يقرب من 30 اسرائيلياً. المعادلة ظالمة حقاً. لكن ما ربحه الفلسطينيون الأفراد أنهم عرّوا الاحتلال والفصائل.

النسر الفلسطيني يخوض معركة مؤلمة لمنع اغتصابه، وليبقى محلقاً. ومن المميز في النسر أنه لا يقبل الأمراض، فحين يدب فيه أي مرض يُكتف جانحيه ويرمي نفسه من أعلى قمة جبل الى أعمق وادي. فهو يفضل الانتحار على البقاء أسير المرض أو العوز.

زاهر ابو حمدة- عين الحلوة