الخميس: 16/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

مقدسيات : تاريخ الأسماء

نشر بتاريخ: 01/03/2016 ( آخر تحديث: 01/03/2016 الساعة: 10:02 )

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

تاريخ الأسماء: من الشهابي الى ابن العلم, ومن صلاح الى كمال فإلى "محمد علي"

ندون التاريخ عن الوقائع والأحداث. وإحدى مصائبنا اليوم أن غيرنا لا يصنع التاريخ وحسب, بل يكتبه لنا. فتصبح كتابتهم "حقيقة" ليقع علينا عبء تصحيح أي أخطاء في روايتهم. وإذا ما كتبنا تاريخنا بأنفسنا فقد نخطئ وقد نصيب, ولكن على الأقل لا نهدر وقتا في تصحيح أخطاء غيرنا.

ليس كل التاريخ وقائع وأحداث. فهل يخطر ببال أحد مثلا أن للأسماء وتطورها عبر العصور تاريخ يستحق التدوين. فقبل أكثر من أحد عشر قرنا قام ابن دريد (المتوفى في 321 للهجرة, 933 م) في كتابه "الاشتقاق" في تفسير الأسماء التي كان يطلقها العرب في الجاهلية على أنفسهم. وكلنا ندرك كيف أنهم آنذاك كانوا يطلقون على الرجال أسماء تروع أعدائهم وتدخل المهابة في قلوبهم. ومثال ذلك "الفيصل" (السيف), و"هاشم" (لهشم العظم), و"صخر" (للصلابة), و"حنضلة" (للمرارة), الخ. أما عبيدهم فكانوا يلقبونهم بالأشياء المحببة لهم مثل "مرجان" و "كافور" و "ياسمين". وفي القرون الأولى للأسلام لقب الخلفاء أنفسهم بأسماء توحي بالثقة والأمان, مثل "الرشيد" و"الأمين" و "المأمون". وما لبثوا بعد ذلك أن حولوها لتوحي بالتقوى والتمسك بعبادة رب العالمين مثل "المتوكل على الله" و "الحاكم بأمر الله" و "المستنصر بالله".

ولكن ما الذي حصل بعد ذلك ؟ وكيف تطورت الأسماء لتصبح كما نتداولها اليوم? أسماء مثل "ناصر" و"شهاب", و"كمال", "صلاح", و"برهان" والتي لم تكن مألوفة لا في الجاهلية ولا في صدر الإسلام. وللجواب على ذلك علينا الرجوع الى القرن الرابع الهجري, أي أكثر من الف عام. ففي ذلك القرن تنامت أعداد القبائل التركمانية التي كانت تسكن أواسط آسيا والتي غالبا ما كانت تعمل في رعاية الماشية وشيئا من الزراعة. إذ اعتنق غالبيتهم الدين الإسلامي وأسلم زعيمهم سلجوق على يد شيخ حنفي المذهب حسب أغلب الروايات. ومع نهاية القرن الرابع الهجري بدأت جحافل هائلة من هذه القبائل في الهجرة غربا الى العراق وشمال بلاد الشام وآسيا الصغرى. والعديد منهم استوطنوا أجزاء من أوروبا قبل سقوط القسطنطينية في 1453 م.

كان لأسماء هؤلاء التركمان وقع غريب على الآذان العربية في العراق وبلاد الشام. ومثال ذلك "تتش" و "ارطغرل" و"أرسلان" و"جان بولاد" و "اورخان" وغيرها. ولا بد أن ذلك شكل عائقا لهم خاصة وأنهم أصبحوا سلاطين للعراق وشمال سوريا. ولأجل التأكيد على إسلامهم ولغاية الإسراع في اندماجهم في محيطهم الجديد بدأ هؤلاء في إضافة ألقابا الى أسمائهم تشير الى تمسكهم بالإسلام. فنشأت العادة لديهم باعتماد ألقاب مثل "عماد الدين" و "شهاب الدين" و"علاء الدين" و"برهان الدين", الخ. وقد ذكر المؤرخ المملوكي ابن تغري بردي في تاريخه "النجوم الزاهرة" سرعة انتشار اعتماد هذه الألقاب لديهم في القرنين الرابع والخامس الهجري. كما أن هؤلاء وبعد أجيال أصبحوا يعتمدون أيضا الأسماء العربية مثل "أحمد" و "علي" و "يوسف و"ابراهيم".

لم يقف الأمر عند ذلك. إذ اعتمدت أهالي بلاد الشام والعراق ما اعتمدته سلاطيينهم باضفاء الألقاب الموصوفة أعلاه على أنفسهم. وانتشر ذلك في مصر بعد السيطرة عليها من قبل الأيوبيين في منتصف القرن السادس الهجري. وذهبت الناس الى أبعد من ذلك. إذ أصبحوا يقرنون لقب محدد لكل أسم. فمثلا من كان أسمه "أحمد" أصبح يلقب بشهاب الدين, و"موسى" بشرف الدين, و"ابراهيم" ببرهان الدين, و"علي" بعلاء الدين, "ويوسف" أو "يعقوب" بصلاح الدين, و"سليمان" بعلم الدين, و"حسن" ببدر الدين, و"عمر" أو "محمود" بزين الدين, و"خليل" بغرس الدين, و"عيسى" بضياء الدين, و "عبد الرحمن" بمجير الدين, وهكذا. أما "محمد" فقد حصل على عدة ألقاب خاصة به وهي سعد الدين, وناصر الدين, وكمال الدين, وشمس الدين, ومجد الدين.

ومن الأمثلة على ما هو مشروح أعلاه السلطان الأيوبي يوسف الملقب بصلاح الدين. والفقيه عيسى الهكاري والذي كان لقبه ضياء الدين والذي رافق صلاح الدين لدى فتحه للقدس. وقد توفي في عكا أثناء حصارها في 1189 م, ودفن في القدس. ومن الأمثلة للعصر المملوكي خليل كيكلدي العلائي والذي لقب (على غير عادة) بصلاح الدين بدلا من غرس الدين. وكان مدرسا في الصلاحية في القدس وله كتاب جليل ومشهور في تفسير القواعد الأصولية في الفقه (مثل الأمور بمقاصدها, لا ضرر ولا ضرار...الخ). توفي في بيت المقدس ودفن في ماميلا في 1360 م. ومثال آخر هو الأمير موسى بن سليمان والذي كان حاكما للقدس للفترة 1393 الى 1395 م. وكان اسمه بالكامل شرف الدين موسى بن علم الدين سليمان, وأولاده يعرفون بأولاد العلم. بني له مقاما بعد وفاته في 1402 م في ما عرف بعد ذلك بحارة الشرف نسبة اليه لأن لقبه كان شرف الدين. وحارة الشرف هذه كانت تحاذي حارة اليهود قديما وأيضا محاذية لطريق باب السلسلة في البلدة القديمة. ومثل آخر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي والذي لقب بمجد الدين. وهو اللغوي اللامع صاحب القاموس الشهير والذي عاش مدة طويلة في القدس وتوفي في اليمن سنة 1415 م. وأثناء تواجده في بيت المقدس كتب بخط يده قصيدة البردة للبوصيري. والمخطوطة آية من الجمال بألوانها وزخرفتها ورأيتها بآم عيني في القدس. ومثل آخر قاضي القضاة في القدس عبد الرحمن بن محمد العليمي (نسبة الى علي بن عليل صاحب المقام في يازور قرب يافا). ومعظم الناس يعرفونه بلقبه مجير الدين مؤلف كتاب "الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل". وقد توفي في 1522 م.

توسع الناس في العصر المملوكي في الأسماء وأصبحوا يقرنون كل اسم ليس فقط بلقب وإنما أيضا بكنية تضاف الى الأسم وملحقا به المذهب السني المتبع. ونورد فيما يلي أمثلة على ذلك:
لمن أسمه محمد وكان على المذهب الحنفي أصبح أسمه يرد بأنه "أبو القاسم شمس الدين محمد الحنفي"
لمن أسمه علي وكان على المذهب الشافعي أصبح أسمه يرد بأنه " أبو الحسن علاء الدين علي الشافعي"
لمن أسمه ابراهيم وكان على المذهب الحنبلي أصبح أسمه " أبو اسحق برهان الدين ابراهيم الحنبلي"
لمن أسمه يوسف وكان على المذهب المالكي أصبح أسمه "أبو يعقوب صلاح الدين يوسف المالكي".

كان المؤلفون في عصر المماليك أحيانا يختصرون الألقاب لتصبح الشمسي أو العلائي أو الغرسي أو الكمالي, الخ. كما كانوا أحيانا يلقبون الناس بأسماء آبائهم. فمثلا إبن الشهابي (لمن كان إسم والده أحمد), وإبن العلم (لمن كان والده سليمان), وأبن الكمال (لمن كان والده محمد), وهكذا. ولمن يريد المزيد من الأمثلة على ذلك عليه مراجعة الكتب المملوكية مثل "الضوء اللامع" للسخاوي. ولما جاء عصر العثمانيين والذي جهل غالبيتهم اللغة العربية أصبح الاختصار لديهم سيد الموقف. فإبن الشهاب أصبح الشهابي, وابن العلم أصبح العلمي, وابن الكمال مجرد كمال. وهذا أقرب تفسير لأسماء هذه العائلات اليوم. وكذلك اختصرت الألقاب مثل صلاح الدين لتصبح فقط "صلاح", وعلاء الدين فقط "علاء", وبهاء الدين فقط "بهاء", وهكذا.

كان للعثمانيين تأثيرا آخرا على الأسماء. فمثلا هم أكثروا من استعمال الإسم "مصطفى" والذي كان نادرا فيما قبل ومستعملا فقط كصفة للرسول الكريم. كما أنهم أكثروا من استعمال أسماء أخرى كانت نادرة من ذي قبل. ومثال ذلك الأسماء "فيض الله", و"حبيب الله", و"خير الله" وما شابه. ولعل أكبر تأثير لهم كان شغفهم بالأسماء المركبة خاصة تلك التي يدخلها أسماء "محمد" و"أحمد". ومثال ذلك: محمد أمين, محمد علي, محمد رمزي, محمد نسيم, محمد عارف, محمد ثابت, وغير ذلك. وأيضا أحمد زكي, أحمد هاشم, أحمد طه, أحمد عارف, أحمد رشيد وغيرها. وجميع هذه الأسماء المركبة وردت لقضاة جلسوا في الحكم في القدس في الفترة العثمانية. وقي القرن الأخير لحكمهم أصبحت بعض الأسماء عندهم لا تميز بين ذكر وأنثى وذلك حين اعتمادهم أسماء مثل عصمت وحكمت ونجاح وسلام. وبالطبع لحقهم في ذلك تابعيهم من العرب.

ذكرنا كيف أن الناس تميل الى تقليد سلاطينهم. ويبدوا أن الأمر ما زال قائما اليوم نتيجة التأثير الثقافي الغربي على مجتمعنا والذي تبع ما يقارب قرنين من الزمن من استعمارهم لنا. إذ نجد أن الأسماء اليوم تميل الى تفضيل الوقع على الآذان عوضا عن اختيار معانيها. ونلاحظ ذلك خاصة في تسمية الإناث: أسماء مثل "دانا" و"لانا" و"يارا" و"تالا". وحتى تلك الأسماء القديمة المعهودة سابقا حولت في العديد من الأحيان الى نغمات لا صلة لها بالأصل: مثل فاطمة و"فيفي", وزينب و "زيزي", وليلى و"لالا" أو "لولا", وهكذا. وحتى إسم كمال الدين أصبح ولو تحببا "كيكو", ومجد الدين الى "مجود", وغير ذلك.

سنبقى مقلدين ومستوردين لأثر الغير علينا... الى أن يأتي زمن نصنع فيه مجددا حضارة نابعة منا. ولربما حينئذ سنسمي أسماؤنا بما ستمليه علينا تلك الحضارة.