الأحد: 05/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

التعليم وأسرار البقاء

نشر بتاريخ: 04/10/2016 ( آخر تحديث: 04/10/2016 الساعة: 14:00 )

الكاتب: تحسين يقين

بعض الحزن، كثير من الأمل، هي رحلة الفلسطيني، ولو زاد الحزن عن الأمل لانهزمنا وتبخرنا من مشهد الحياة.
يهاتف الطفل أمه لا كما يفعل الآخرون، لأنه يقوم بذلك من طرف واحد: إنه يرسل عبر هاتف إذاعة فلسطين، لعل والدته المعتقلة في سجون الاحتلال تسمع نداءه: "كبرت يا أمي، لا تقلقي عليّ، صرت كبيرا، أقوم بتوصيل أختي إلى المدرسة، نحن بخير يا أمي، فقط كوني بخير، نحن في انتظارك".
أعادني الطفل إلى بداية التسعينيات، حين بدأت رحلة التعليم في الانتفاضة الأولى، حيث صرت أتعرّض لتجربة تعليم أطفال الشهداء والجرحى والأسرى، وكيف كانوا يخفون آلامهم، مظهرين القوة والتحمّل، في حين كنت أجد صعوبة في إخفاء تضامن العينين، فما أجد نفسي إلا متابعا للدرس، ملبيا طلبهم غير المعلن، بألا أظهر شعوري المتضامن معهم. ولعلي عشت طفولتي في بداية السبعينيات، حين كنت أتعلم مع الأطفال الذين عانوا غياب الآباء في السجون والمنافي؛ وكان ربما حزن الطفل فيّ عميقا، ولا أعرف كيف أتضامن معهم؛ فآثرت ألا أظهر تضامني، حتى لا أثير أحزانهم، فكنت بدلا من ذلك أسعى إلى إسعادهم، بما ملكت يداي ولغتي.

لم يمر غير أقل من عقدين، إلا ويصير المتعلمون المعذبون الصغار معلمين كبارا؛ فقد طالت رحلة الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال. واليوم وأنا أستمع لطفل الإذاعة الكبير، تعمقت لديّ الأجوبة على ما يثار من أسئلة حول إقبال الأطفال المقهورين على التعليم، فلسطين مثالا!
كنا أطفالا نرى في التعليم جواز سفر نهوض بالأسرة، لكن كان يسكن في لا وعينا أهمية التعليم في التعبير عن قضيتنا والدفاع عنها بالكلمة، لذلك ما إن تعلمنا الكتابة حتى كانت أولى كلماتنا عن مكاننا، ومقاومتنا المشروعة لجعله حرا من الغرباء.
كنا صغارا في لهونا البريء، نمارس ألعابنا الشعبية كأي أطفال آخرين، متحولين لكبار مواجهين الجيبات العسكرية بالحجارة، أو بالصراخ عليهم، ثم ليأخذ الأطفال الجدد المقاومة البريئة من الفتيان والشباب.

يختار أطفالنا متى يكونون صغارا ومتى يكبرون قبل الأوان، متى يغادرون صفوف الدراسة ومتى يعودون، ورغم الانقطاع لفترات عن التعليم، ظلت نسبة التعلّم لدى الشعب الفلسطيني من أكثر نسب التعليم في العالم، منافسين بذلك حتى دول الرفاه في الشمال الأوروبي الإسكندنافي!
تفسير ذلك، سوسيو سايكولوجي وطني وسياسي وإنساني؛ هو شعور عميق بأهمية أداة التعليم في البقاء الواعي، والمقاومة الواعية البريئة، التي كانت لها أثر في إعلاء القضية الفلسطينية أكثر من أية مقاومة للكبار، حين انطلق أطفال الحجارة في انتفاضتهم الأسطورية في شتاء عام 1987.
ما المشّوق هنا في هذه الكلمات؟ وما علاقة ذلك بأطفال المهاجرين العرب وغيرهم؟

ما أن تنتصب خيام اللجوء، حتى تبدأ رحلة الأطفال والأهالي عن المدارس، حدث ذلك بعد نكبة فلسطين عام 1948، حين تأسست المدارس في خيام اللاجئين في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان. وما أثار العجب، هو قدراتهم في التحصيل، فهل كان ذلك إثباتا للذات الصغيرة؟ هل كان لإسعاد الوالدين والكبار؟
الاحتلال الإسرائيلي كاستعمار يجد نفسه وصيا على شعب فلسطين، ولا يرى أنه يستحق الاستقلال، فهو غير مؤهل للحكم والإدارة، أي أن الاحتلال يرى الفلسطينيين الكبار صغارا، لكن من ناحية أخرى يضرب بالقانون الإنساني الدولي عرض الحائط، فيقتل الأطفال باعتبارهم كبارا، ويأسرهم، ويصيبهم. أي أنه يحدد متى يكونون صغارا ومتى يكبرون قبل الأوان، فيشرعن محاكمتهم.

لكل منطقه في التصغير والتكبير، للأطفال المعذبين والمقهورين، ولمن يقوم بتعذيبهم وقهرهم؛ حين يداهمون حيث يختار الأبرياء طرقهم في التعلم والبقاء، ويحتار جنود الاحتلال حين يداهمون البيوت ليلا، فلا يجدون غير الأطفال يقرؤون على "لمبة كاز".
حيرة الباحثين والخبراء كبيرة إزاء استمرار التعليم في فلسطين تحت الاحتلال والحصار، ففي حين يعاني الأهالي سوء وضع أطفالهم المرفهين تربويا، ينام الأهالي هنا على شاطئ غزة وجبال فلسطين مطمئنين، سوى من هجوم الاحتلال على براءة أطفالهم.
في ظل هذه الحيرة، نقرأ ونسمع يوميا الجدل حول التعليم وكتب التعليم، وهو جدل مجتمعي وإسرائيلي، جدل داخلي حول قيم التعليم، واتهام إسرائيلي لنا بالتحريض. فما الذي يمكن أن نضيفه؟

الفلسطيني بفطرته وذكائه، والفلسطينية بفطرتها وذكائها، عرفا الطريق، مضيا وما زالا متخين/ات من التعليم أداة بقاء ومقاومة، نكبر جميعا به ونقوي، ولا نستعلي على أحد، ونحترم قيمنا الإنسانية جميعها.
في المجتمع الوطني، نتوقع أن يكون النقد لا تصيدا ولكن بناء وموضوعيا، بحيث نشعر أن النقد ومنطلقاته هو من أجل أطفالنا ومستقبلهم، خصوصا ونحن نفهم ونتفق جميعا على أن من أهداف التعليم هو البقاء. نحتاج نقدا ينطلق من هذه القناعة، لا نقدا منفرّا، نقدا ينحاز لطفل الإذاعة، طفل المعتقلة الذي يمضي وشقيقته صباحا يحملان الأمل.

إسرائيليا، لا يحتاج الطفل لنص محرّض، وهو أصلا يرى التحريض بعينه، فقبل النظر إلى بعض القش في العين الفلسطينية، لعل الإسرائيلي ينظر إلى الأخشاب في أعين كتابههم وتربوييه!
وإذا حصل أن ظهر نص أو صورة تم تقديمهما بشكل غير ممنهج، وذكره الإسرائيليون، فإنه يصعب عدّ أمثلة نفي الآخر الذي يتم بشكل ممنهج إقصائي وسلبي استلابي وإحلالي.

لنا ما نقوله عن تحديات إعداد المناهج، وإنتاج الثقافة، والسياسة، لربما لدينا ما هو أفضل، لكن هذه هي حال المجتمع المعرفي التربوي، وهي تأتي في السياق العربي، والعالمي تقليدا وإبداعا. وعملية التغيير والتطوير تتشكل في منظومة متكاملة، يصعب تحقيقها دفعة واحدة. نحن بحاجة لتكامل الجهود وتحالف وطني تربوي من أجل التطوير، يقوم على التعاون، والبناء على المنجز، وعدم نفيه. علينا أن نركز على البقاء، ونتعلم من الطلبة الأطفال أنفسهم الذين يتجاوزون نصوصنا، حيث أنهم أيضا يتعلمون من الحياة الفلسطينية الحيوية حولهم، ومصادر تعلمهم تعددت وتنوعت، فلا نقلقن كثيرا عليهم فنقتتل تربويا كما اقتتلنا سياسيا.

لننشغل ببقائنا، ولنستجيب لحاجات مجتمعنا، ومستقبلنا بدون توتر أو نزق أو اتهام؛ وبدلا من ذلك فإن أمامنا طريق عقلانية للتغييرين الاجتماعي والسياسي، علينا أن نسير فيها، في الطريق التحرري، لا أن نقتتل ونحن نسير فيها. وقتها، سنتطور أكثر، وسيصيب التغيير مجالات الحياة ومنها التربية، وحتى ذلك الحين، لنا وقت لتصالح داخلي تربوي يقوم على الاحترام المتبادل، باتجاه أن أمور التربية هي شأن عام ووطني.
بالتعليم والتنوير نظل كبارا لا مستكبرين، ولا متكبرين، وبهما نستحق أن نكون فاعلين بقوة، لنقطف استقلالنا الوطني. بغير ذلك نصغر ونقزّم أنفسنا، فنصير صغارا نغري الآخرين ليس بالوصاية علينا، بل نفينا كشعب عريق.