الأربعاء: 22/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

سلام على السَكينة في قلوبنا.. وعلى السِكِّينة في جيوبنا..!

نشر بتاريخ: 29/11/2016 ( آخر تحديث: 29/11/2016 الساعة: 15:17 )

الكاتب: سمر الدريملي

"السلام".. و" السِكِّينة " ..
"السلام" أعني بها التصالح والهدوء والأمن والدِعة؛ أمّا السِكّينة؛ فأعني بها سِكِّينة المطبخ..! التي تذبح وتقطع وتقتل..!
فإلى أيّ مدىً نحمل في قطاع غزة السلام والهدوء والطمأنينة في ذواتنا وتوجّهاتنا وسلوكياتنا؛ حتى مع بعضنا البعض؟ وإلى أيّ مدىً نحن قادرون على ترك السِكِّينة وهجر الخوف والفزع والكرب؛ لاستبدالها بالسَكينة ولو لفترةٍ من الزمن؟!
كلّ شيءٍ ينبض بالحياة في غزة يرتجف مُحتضراً.. خوفاً ومرضاً وجُرحاً وترقّباً وحذراً.. فالسكون والأمن والاطمئنان.. كلّها مترادفاتٌ بعيدةٌ كلّ البعد عن توصيف الحالة السائدة في قطاع غزة منذ حوالي عقدٍ من الزمان..
قطاع غزة.. تلك المساحة الجغرافية الصغيرة؛ تعجُّ بالحكايا والخفايا والتناقضات.. وحالةٌ من الكثافة المتجدّدة والمتسارعة للأحداث والمفاجآت؛ إلى درجة أنك تشعر معها أنك تريد أن تنسلخ منه أو أن تسلخه عنك.

من يعيش تفاصيل الحياة في غزة؛ هو الأقدر على وصف حالة عدم الاستقرار والتعب والحنق الخانق؛ فلا أنت تملك حريةً شخصيةً في بيتك أو في طريقة تربية أبنائك أو في طريقة لباسك أو حتى في طريقة متابعتك "للموضة" أو حريةً من الحريّات التقليدية؛ كحريّة التعبير والتنقّل والحركة.
فإلى أيّ مدىً قادرٌ أنت على أن تحزن بطريقتك الخاصّة في غزة؟! أو أن تفرح أو أن تنتميَ للحرب أو السلم؟! أو أن تكون أنت الحقيقيّ في عالمك الافتراضي؟ أو أن تختار أن تعانق يدُك يدَ شقيقتك؛ لتسيرا بابتهاجٍ وارتياحٍ في شوارع غزة وأزقّتها؟!!
وإلى أيّ مدىً أنت قادرٌ على رفض هيمنة وتفرّد السلطة المتحكّمة بالسلطة؟ وتعسفها في سحب مالك الزهيد من جيبك الفقير؟!
إلى أيّ مدىً أنت قادرٌ على صياغة ملامح وهوية غزة.. غزّتك التي تحيا بها وتحيا بك.. الأعلام واليافطات والأسماء والمعالم تتبدّلُ وتتغيّرُ؛ فيما أنت نائم..! وفي الخفاء؛ تُروى البذور لإحياء وإنعاش خلايا ميتةٍ لما يًسمى بتنظيم "داعش".

التفاصيل في غزة -التي تذبحنا كما السِكِّينة - كثيرةٌ وتُميتُنا ببطء.
حالة الاحتراس والاضطراب والذُعر والضيق في روتينك اليوميّ في الذهاب والإياب للعمل؛ حيث تستيقظ على العتمة وتغفو مُجبراً على العتمة أيضاً..
..عند تسليم ابنتك لباصّ الروضة غير المؤمّن؛ حتى أنّ شعوراً ينتابُك أنها حافلات الموت تنقلُ أطفالنا لرياضهم؛ فليس هناك حسيباً أو رقيباً على مدى سلامة الحافلات التي تنقلهم، أو حتى على ما يتلقّونه من غذاءٍ ماديٍّ وفكريّ.. ناهيك عن حوادث الطرق، وعدم وجود حالةٍ مروريةٍ صحيّة في كلّ شوارع قطاع غزة؛ حتى أنّ البعض أصبح يُسمّي خطّ المشاة "خط الجّكر" بسبب إصرار بعض المواطنين على المرور عليه؛ وتحدّي بعض الناقلات التي تسير دون اكتراثٍ واحترامٍ لقوانين السير والقيادة.

التفاصيل؛ عندما أصعد إلى سيارة الأجرة؛ وأجد بأنّ من سبقني في الصعود سيدةٌ تضع النقاب على وجهها؛ فلا ترى بالكاد منها سوى بضعة رموشٍ سود.. فأبدأ بالتفكير: أهي امرأةٌ أم هي رجل..؟ أيجوز أن ألتصق بها في حال صعد راكبٌ ثالثٌ إلى جانبي أم لا يجوز؟!
الإضراب عن الإضراب في أهمّ مناحي الحياة؛ كإضراب البلديّات وإضراب المستشفيات، وحالةٍ من التلوّث والخطر المضاعف يصل إلى حدّ أنك تريد تغليف رئتيك.
كما أنّ الشعور بالخوف من الموت البطيء على جهازٍ لم يعدْ يضخُّ الدمَ أو الأكسجين لوريد المريض.. شعورٌ يقتل النفس ويجعل الروح معلقةً؛ لا هي صاعدةٌ إلى السماء على إطلاقها ولا هي هابطةٌ إلى الأرض بأكملها.

وعندما تعجُّ ثلاجاتُنا بأشكالٍ وألوانٍ من الخضروات والفاكهة تشبه مثيلاتها في الزمن السحيق.. جميعها اختلفت.. لونُها.. طعمُها.. حجمُها.. فترةُ صلاحيتها.. طريقةُ تعفّنها وطريقة احتفاظها بهويّتها..! فقد تمّ تهجينها وتمزيجها وتقبيحها بأنواعٍ مختلفةٍ من الكيماويات والسموم والأدوية؛ لضمان الحصول على المال الوفير، وفي المقابل: الزهيد من الصحّة والنقاهة.
أُقسم أن يدي تمتدّ أحياناً.. مرتجفةً.. متردّدةً عند تقديمي حبّةً من الفاكهة لابنتي؛ التي لم تكمل العامين.. لا أريدها أن تبتلع العسل والسمّ في إناءٍ واحد..
الغريب؛ أن قطاع غزة متخمٌ بالقوانين والفتاوى والأعراف، وبدل أن تحكمه سلطةٌ واحدةٌ تحكمه سلطتان؛ إلى جانب سلطاتٍ أُخرى خفيّةٍ.. إلا أنّه وبرغم ذلك؛ غير محكومٍ بأيّ شيء .. قطاعُنا الحبيب العنيد؛ كما وصفه أحد الشباب الذين لجأوا إليه من جحيم مخيم اليرموك بسوريا.. باختصارٍ شديد (ماشي على البركة).

إلا أنّ هناك أيضاً ثمّة هامشٍ من التحكّم المتعنّت بك كمواطن.. يُشعرك بأنّك وكلّ ما تملك مسخّرٌ بالإكراه لخدمة وتسيير "أعمال الحكومة الرشيدة".
كلّنا في قطاع غزة مجنّدون.. ومشاريعُ شهادةٍ، لكن؛ ليس باختيارنا ولا غصباً عنّا..! وهنا التناقض والتضارب الذي يقطعك لنصفين إلى حدّ الانفصام..
أنت بحاجةٍ لهدنةٍ نفسيّةٍ بنفسجيّةٍ طويلةٍ وبعيدةٍ.. مع الذات؛ تدعمها كلُّ الظروف حولك..
وأنت -في المقابل- يجب أن تكون جاهزاً لأيّ عدوانٍ أسود (محتمل ..مفتعل.. مبتكر..) على كلّ شيءٍ ينبض بالانتماء لموضعٍ وُلدت فيه، وتوطّنت فيه؛ حتى صار يُسمّى (وطناً).

فلا أنت قادرٌ على أن تنكر المقاومة، ولا أنت قادرٌ على مدّ يدّك من النافذة مُلوحاً بفانيلة طفلتك البيضاء؛ كي تعلن الرغبة في الاستسلام.. أو على الأقل؛ لتعلن عن حاجتك لأن تتنفّس؛ ولو حزمة أكسجينٍ ملوثةٍ لدقائق معدودةٍ خلال 51 يوماً انصهر فيها الكربون مع الدمع..!!
صراعٌ يجعلك دائم التفكير بالهجرة.. هجرةٍ عشوائيةٍ أو منظّمةٍ.. هجرة تجعل إحدى صديقاتي تدّخر الشيكل على الشيكل؛ لدرجة استعارة سجادٍ -لفرش البيت من برد الشتاء- من أمها بدلاً من شرائه.
غزة "مسلوخة القوام" بسبب حصارها وفقرها المدقع.. الحزن فيها لا يؤجّل.. والفرح فيها لا يكتمل.. والحداد لا يتوقّف..
غزة أحبك حدّ الجنون..
وأكرهك حدّ الجنون أيضاً..!