الإثنين: 13/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

اللجوء إلى ابتزاز الدول.. تعبير عن سقوط سياسي ودبلوماسي

نشر بتاريخ: 24/12/2017 ( آخر تحديث: 24/12/2017 الساعة: 16:24 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

المهمة التي تتضطلع بها الدبلوماسية الفلسطينية في هذه المرحلة، ليست عملية سهلة، في ظل تشابك المصالح الذي يسود العالم، فقد كفّت القضية الفلسطينية عن أن تكون قضية ذات طابع عاطفي بالنسبة إلى دول وشعوب العالم، بقدر ما تحيط بها تكتلات ومصالح وهيمنة دولية، تطغى على الحقوق والأخلاق والاتفاقيات والمواثيق الدولية، وبالرغم من الواقع العربي المرير إلا أن الدبلوماسية الفلسطينية تتعلم وتراكم وتعي حجم التناقضات والعراقيل والتحديات، وتنجح في كثير من الاختبارات في تفكيك رموزها وتعقيداتها، وتحقق إنجازات تحسب للدبلوماسية والعمل السياسي الفلسطيني بشكل عام.
ليس لدى الفلسطيني ما يقدمه للعالم وما يقايض به على مستوى الاقتصاد والصفقات التجارية، فنحن شعب يعيش تحت الاحتلال ومواردنا منهوبة ومحدودة واقتصادنا مقيد تابع، وكل ما يملكه هذا الشعب إيمانه بقضية عادلة وصموده على أرضه وتشبثه بحلم التحرر والاستقلال ووعيه بما يحيط به ويمكن توصيف الشعب الفلسطيني بأنه شعب مسيس، فالمواطن العادي يتابع مثلاً التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويميّز بين الدول المؤيدة والدول المناهضة لحقوقنا، وكذلك الدول المغلوبة على أمرها مسلوبة القرار والإرادة.
ومع ذلك استطاع الفلسطينيون أن يشكلوا جبهة دول مؤيدة ومساندة لقضيتهم، مستفيدين من خبرات وحسابات دقيقة لكل دولة، انطلاقاً من أن الأمور في السياسة لا يمكن تعليقها على الصدفة أو الاكتفاء بـ"المضمون والمحسوم"، فلا مضمون في السياسة في ظل حسابات المصالح.
الدبلوماسية الأمريكية والإسرائيلية بإمكانياتهما تخسران أمام الدبلوماسية الفلسطينية، حيث تعترف أكبر دولة في العالم أنها غير قادرة على إقناع الدول أو التأثير عليها في الجمعية العامة، من خلال لجوئها إلى التهديد والتلويح بالعقوبات أو الحرمان من المساعدات، إذا ما صوتت ضد التوجهات الأمريكية. وهل يوجد أوضح من هذا الاعتراف بالاخفاق والفشل؟
لا تمتلك الدبلوماسية الفلسطينية أية أدوات للضغط أو التهديد، سوى مخاطبة العالم بلغة هادئة ومؤثرة ملخصها أننا آخر شعب على هذه الكرة الأرضية يرزح تحت الاحتلال، وأن كل ما نريده هو الاستقلال في دولة وعاصمتها القدس الشرقية، لا يوجد إذن شعارات كبيرة، بيد أن القوة التي يلجأ إليها الفلسطينيون هي قوة الحق وعدالة القضية وقوة المنطق وطول النفس وعدم التسليم بموازين قوى مختلة ومجافية.
والحقيقة أن الدبلوماسية الفلسطينية نجحت في امتصاص أزمات مع دول عربية، وها هي تجتهد في امتصاص أزمات أخرى، بعد أن تبيّن لها أن النفوذ الأمريكي والإسرائيلي قد تغلغل في بعض الدول، وأثر على مواقفها، في حين ظلت دول أخرى، بمنأى عن الرضوخ للضغوط الأمريكية الإسرائيلية، بالرغم من الصعوبات والتحديات الاقتصادية التي تعيش.
لذلك فإن القرارات الأممية التي حصدها ويحصدها الفلسطينيون تؤكد نجاح الدبلوماسية الفلسطينية بالرغم من الثقل الأمريكي المناهض بكل ما يمتلكه من قوة عسكرية واقتصادية وقدرة على استثمار الاقتصاد، فيما لا تتورع الإدارة الأمريكية عن اللجوء إلى "الفيتو" في تعبير عن إخفاق وفشل، كون "الفيتو" السلاح الدبلوماسي الأخير الذي تستخدمه الدول، وهو سلاح مكروه على مستوى شعوب العالم، لأنه يرمز لنفوذ وتفرد وهيمنة، وهو نتاج تقسيمات وحروب، ويعبّر عن ثقافة قديمة، خاصة وأن العالم يتغيّر وأن التحالفات تتبدل، وأن المصالح الدولية غير ثابتة، فمثلاً الباكستان في حربها المعروفة مع الهند، قد حاربت بالسلاح والدعم الأمريكي والهند كانت صديقة مقربة للاتحاد السوفيتي وحاربت بأسلحته، وها نحن نشهد تبدلاً في الأدوار، حيث تقترب باكستان من روسيا وتتخذ مواقف أكثر استقلالية وعدالة عن المواقف الأمريكية، وتبدي دعماً أوضخ للقضية الفلسطينية، وفي مشهد آخر فإن إيران تتحالف مع روسيا، رغم اختلافها على المستوى الايدولوجي، أما الصين التي تناقضت في التفسير والنهج الأيدولوجي للماركسية مع الاتحاد السوفيتي السابق، مع أن الدولتين كانتا تحت مظلة الاشتراكية، نرى اليوم أن روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وغياب النمط الاشتراكي، تتحالف مع الصين الاشتراكية، ويبدو تحالفهما الصاعد اقتصادياً وعسكرياً، أنه في طريقه ليكون القوة العسكرية والاقتصادية الأكبر في العالم في منظور زمني لا يتعدى العشر سنوات (روسيا بامكانياتها العسكرية الضخمة والصين بثقلها الاقتصادي الكبير والمكتسح).
لا ثبات في التحالفات ولا ثبات في السياسة ولا تسليم للبديهي، هذه تشكل فرضية للدبلوماسية الفلسطينية، إنها فرضية مشتقة من علم ومعرفة وعدم الركون لثوابت مطلقة، لذلك هي تنجح وتحقق إنجازات، وحتى أن الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى، أخذت تتنبه للنجاحات الفلسطينية على هذا الصعيد، في حين أن الدبلوماسية الإسرائيلية التي بدورها تقرأ وتفهم العالم، تتخبط بين القانون الدولي الذي يناهض الاحتلال، وبين أخلاقيات الدول في القرن الواحد والعشرين التي تحرج صناع القرار، الذين يرون بالمشاهد والحقائق والمعطيات، الفلسطينيين يكابدون ويجاهدون من أجل الاستقلال وليس من أجل هدف آخر، فهم لا يتبنون استراتيجية إخضاع الآخرين بالقوة والتدمير والقتل والفتك، كما تفعل إسرائيل والولايات المتحدة، فقط قوة الدبلوماسية الفلسطينية في الحق والأخلاق والقانون الدولي، جنباً إلى جنب مع المعرفة الدقيقة بخصوصية كل دولة على هذا الكوكب.