الثلاثاء: 07/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

التعاظم اليومي لتحديات عالم العمل

نشر بتاريخ: 07/10/2018 ( آخر تحديث: 07/10/2018 الساعة: 12:22 )

الكاتب: ناصر دمج

قبل 25 عاماً كانت الجامعات على مستوى العالم، تدرس (450) تخصصاً، بينما اليوم تدرس (2260) تخصصاً، 85% منها لا يحتاجها سوق العمل؛ يحدث ذلك في ضوء اتساع المسافة التي قطعتها البشرية في مضمار تحديث أساليب وطرق الإنتاج، وهو تطور أحدث معه العديد من المتغيرات الاستراتيجية الكبرى في عالم العمل.
مقابل الوظائف التي يتم حذفها يومياً، وفرت المتغيرات نفسها فرص عمل أكثر بكثير من التي تم حذفها أو في طريقها إلى ذلك، وحركية هذا المتغير تنبع من قدرته الأسطورية على التحديث الذي لا يتوقف، بسبب ذلك تتعاظم حاجة أسوق العمل لعمال وموظفين مهرة لديهم الخبرة التطبيقية أكثر من حاجتها لحملة شهادات جامعية غير مدعمة بما يلزم السوق من مهارات الاحتراف والتدرب المسبق، والخبرة التي تمكن مالكها من الالتحاق الفوري بالعمل.
لهذا نرى تزايداً لتفضيل الشركات، لحامل شهادة المحاسب الإداري المعتمد - على سبيل المثال - والمحاسب القانوني المعتمد، التي لا تدرس في الجامعات؛ ويمكن الحصول عليها من مراكز تدريب مهنية خلال مدة لا تتجاوز الستة شهور، على المحاسب التقليدي الذي أمضى في الجامعة أربع سنوات، وتفضل حامل شهادة إدارة المشاريع الاحترافية، التي يمكن الحصول عليها من المراكز المذكورة، على حامل شهادة علم الإدارة النظرية؛ وعلى ذلك يمكن القياس بين العديد من مجالات التعليم التقليدي، واحتياجات سوق العمل من الوظائف.
من هنا تبرز أهمية الشهادات المهنية الاحترافية، وهي حقيقة بسببها تخلت العديد من الشركات عن اهتمامها بالشهادات الجامعية التقليدية، أو منحتها مكاناً متأخراً ضمن لائحة قبولها للموظفين الجدد، ومن تلك الشركات (أبل، بانك أوف أمريكا، هيلتون مايكروسفت، أي بي أم، سيمنز، HP، كومبرز بانك)
الفجوة آخذة في الاتساع
تسبب ما تقدم سرده من معطيات باتساع الفجوة بين حملة الشهادات التقليدية واحتياجات أسواق العمل، بسبب افتقارهم - كما ذكرت - للمهارات التطبيقية التي تؤهلهم لمباشرة العمل الفوري، يعني ذلك أن الوظائف المستحدثة التي أصبح يعج بها عالم العمل، بحاجة للخبرة والمهارات أكثر من حاجتها للشهادات الجامعية التقليدية.
هذه حقيقة تعرف العالم عليها بعد نشر جامعة هارفرد لنتائج مسح دراسي خلص إلى أن 15% من المهارات التي يحتاجها سوق العمل؛ لا يتم تدريسها في الجامعات، يعني ذلك أن 85% من التخصصات الجامعية لا يحتاجها سوق العمل، ومن عجائب هذه الحقيقة أن الطالب يمضي من 16 عاماً وهو يتعلم ويدرس؛ ويمكن أن لا يجد عمل بعد ذلك، وطالب آخر من الممكن أن يحصل على دورة لمدة ستة شهور ويحظى بفرصة عمل فورية.
سيما أن الدراسات المسحية التي نفذتها وزارتي العمل والتربية والتعليم العالي الفلسطينيتان لتتبع أثر خريجي برامج التدريب، أكدت على أن نسب التشغيل لخريجي التعليم والتدريب المهني تصل إلى 92% وفي بعض التخصصات تصل إلى 100%، بينما بلغت نسبة البطالة بين حملة شهادة البكالوريوس 55% وفقاً لآخر إحصائية أعلن عنها الجهاز الفلسطيني المركزي للإحصاء، بتاريخ 22 آب 2018م، يعني ذلك أن هناك فرصة حقيقية للتغلب على ظاهرة بطالة الخريجين من خلال التأهيل والتدريب المهني المستجيب لاحتياجات سوق العمل.
أمام ذلك نتساءل عن، ما الذي يجب أن يستخلصه معدوا السياسات الوطنية للدول، بمن فيهم الشركات لإعداد وتدريب الكفاءات البشرية وتعميق تبادل المعرفة والخبرات، مستفيدين من خطوة مماثلة قطعتها بالكامل أو تكاد كبريات الشركات الغربية، طمعاً بزيادة انتاجيتها وإيماناً منها بالفائدة الاقتصادية العظيمة للاستثمار في الموادرد البشرية، لإكساب الخريجين المهارات التطبيقية التي تدعم تخصصاتهم الدراسية قبل تخرجهم، على قاعدة أن هذا الجهد يستقيم مع الاستثمار الأمثل في الموارد البشرية، واستغلالها وهي في ذروة عطاءها البدني والذهني، بدلاً من تحولها لصفوف البطالة وتبديد طاقتها الإنتاجية المأمولة.
يمكن لهذا النموذج من التحديث أن ينجح في بلادنا، بعد أن تتيقن المؤسسات والشركات ومكونات القطاع الخاص برمتها؛ من أن الاستثمار الاستراتيجي الأمثل في الموارد البشرية، هو شكل من أشكال صناعة الثروات، ويظاهي استخراج النفط والغاز في الدول التي تمتلكه، وهذه حقيقة يجب أن تدفع المستوى السياسي الفلسطيني لإعادة ترسيم الاستراتيجيات الوطنية على قاعدة الاهتمام برأسمالنا البشري وتطويره وتقديره التقدير المناسب.
إلى ذلك، يمكن للجامعات شطر مدة الدراسة إلى نصفين، الأول: للتعلم النظري، والثاني: للتدريبات التطبيقية، لأن اكتساب المعرفة العلمية الذي توفره الجامعات لن تفي بحاجة سوق العمل منفردة، لهذا لا بد من تدعيم الخريجين بالمهارات المستجيبة لاحتياجات سوق العمل الفورية.
تعريف جديد لمفهوم البطالة
الإخفاق في معالجة هذا الأمر، سيسهم في ارتفاع معدلات البطالة حول العالم؛ وهي التي تتراوح حالياً حول 13%، بينما تبلغ في العالم العربي 25%، وتتضمن هذه النسبة 71 مليون متعطل عربي عن العمل، 30% منهم من الشباب والشابات، وهناك 20 مليون عربي من حملة الشهادات بلا عمل، وفي مناطق الولاية الفلسطينة تجاوزت معدلات البطالة حد الــ 35%، 55 منهم من حملة الشهادات الجامعية الأولى، وهناك 39% ممن يحظون بفرصة عمل في الوطن العربي يعيشون بأقل من 3.10 دولار يومياً، وأن الدول العربية مطالبة بإيجاد 5 – 10 مليون فرصة عمل سنوياً لتخفيض معدلات البطالة وعدم استفحال الفقر.
عودة على بدء، طالماً أن التحديث الذي يشهده عالم العمل، حذف فرص عمل كثيرة، ووفر فرص بديلة، يعني ذلك أن هناك فرص عمل؛ لكن لا قدرة لجل شبابنا وشاباتنا على الفوز بها، وهنا لا يمكن إلقاء اللوم على متغيرات السوق لوحدها، بل يمكن لوم أنفسنا لأننا لم نعد قادرين على التكيف معها.
فعلى سبيل المثال بلد مثل السعودية، معدل البطالة لديها 12%، وتتوفر لديها 600.000 وظيفة مرافقة أو ناتجة عن الأتمتة والتطبيقات الإلكترونية، أخذين بعين الاعتبار أن جزء من شريحة البطالة أو ممن يعدون من المتعطلين عن العمل في هذه الدولة هم من حملة الشهادات الجامعية التقليدية الأولى.
يستخلص من ذلك أن هناك فرص عمل وهناك بطالة، سببها العجز البشري في إخضاع المتغيرات التي ألمت بعالمه؛ لهذا لا مفر أمام الإنسان سيما العربي سوى ولوج المتغيرات بمزيد من التصميم على التكيف معها، وابتكار فرص العمل الجديدة والمتجددة منها مباشرة.
المخرج
يمكن للدولة، ومعها القطاع الخاص والشركات، البدء بخطة شاملة لمنح التعليم التقليدي المرونة التي تلزمه، لأن بطالة الخريجين ليست مشكلة من صناعة الخريجين؛ بل هي مشكلة السياسات الوطنية والقومية التي تقرها الحكومات بالتعاون مع الشركاء الوطنيين؛ لأن الطلاب الذين اجتازو كامل ساعات الدراسة الجامعية، يمكنهم اجتيازات ساعات أقل لإتمام مقررات التدريب التطبيقي، لهذا مطلوب من الحكومات ما يلي:
1- العمل على مزامنة التعليم المهني والتعليم النظري.
2- تحديث مناهج التدريب المهني، وفحص مدى ملائمتها لمتطلبات الثورة الإلكترونية.
3- إقرار التعليم الإلكتروني، ضمن ضوابط تكفل حسن انتاجيته لا التسبب بشيوع الفوضى وانحطاط التعليم العام.
4- منح عملية التعليم المرونة التي تلزمها، لتمكن المجتمع من ولوج مستقبل العمل والتكيف مع متغيراته.
لهذا يمكن استدراك المعضلة من خلال خطة استثمار علمية في الموارد البشرية، على قاعدة أن التعليم هو أهم مجالات الانتاج وليس الاستهلاك الخدمي، ما يسهم في تغير وظفية ودور الشركات من مستهلكة وجامعة للرأسمال المادي، إلى حاضنة تدريب وتنمية للرأسمال البشري.
وهذه خاصية يجب أن تضيفها الدولة لبطاقة تقييمها للشركات بحيث يعتبر مقدار تدريبها للطلاب، ميزة تمنح أو تحرم منها الشركاء، حيث أصبحت الشركات في الغرب مدارس وحاضنات للتطوير، ما منح الشركات نفسها فرصة الاستفادة من مهارات المتدربين، التي أنتجت في غير دولة ودولة نظريات عمل إدارية جديدة، واختراعات علمية لم تعرف من قبل، تستفيد منها الشركات المدربة، وتخدم مسيرة العلم والاقتصاد العالمي والمعرفة الإنسانية.