الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

أنقذوا البحث العلمي في فلسطين‼

نشر بتاريخ: 11/02/2019 ( آخر تحديث: 11/02/2019 الساعة: 19:56 )

الكاتب: د.محمود الفطافطة

يُشكلُ البحثُ العلميُّ القاعدةَ التي يتكئُ عليها سلّم المعرفة والتطور، فالمجتمعاتُ التي صاحبتْ العلم، وَرَعتْ باحثيهِ، قطفتْ ثمار الريادةَ والمَنَعة، بينما الدول التي رأتْ في البحثَ العلميَ ترفاً لا ضرورة؛ ظلّت حبيسةَ أحزمةِ الفقرِ، وبؤسِ التبعية، وديمومة التشظِّي والتراجُع.
إنّ البحثَ العلميَّ الرصين كفيلٌ بنموِّ أيّ اقتصاد، وتنميةِ كلِّ مجتمع، فلو أخذَنا ــــ على سبيلِ المثال ـــ ثلاثَ دولٍ خرجتْ من حروبِها مثقلةً بالهزيمةً والدمار، وهي ألمانيا، وإيطاليا، واليابان، لوجدْنا أنّها دولٌ أصبحت في مصافِّ الدولِ الصناعية الكُبرى، والأكثر تسجيلاً لبراءاتِ الاختراعِ في كافةِ قطاعاتِ الحياةِ المختلفة.
كذلك؛ فإنّ الشعوبَ التي امتلكتْ ناصيةَ البحثِ العلميٍّ، وأجادتْ أدواتِه ومناهجِه، تخلصت من بؤرةِ الانعزال، وهيمنةِ الآخر، منطلقةً بحاضِرها ومستقبلِها نحو جادّةِ النّماءِ، والتنميةِ، والانتمَاء، فالحاضرُ مُشربٌ بتعدديةَ الدّاخل، والانفتاحِ نحو الآخر، أمّا المستقبلُ فعنوانُه شموليةُ التكامُل، وتواصليّة التوهُّج.
ومثلما لا حدودَ للمُمكن في العلم؛ فإنّه لا وجودَ للمستحيل في البحث العلمي، والأمّة التي تسعى إلى الريادة والمكانة عليها أن تصادِقَ العِلم، وتبادر لمنح البحث أولويةً في الحرية والرعاية. وكما أنّ العِلم أُوكسجين النمو والنّماء؛ فإنّ البحثَ العلميَّ بمثابة الروح التي تؤسِّس لقواعد التطوير الماديّ، والانفتاح الفكري، وتوطينِ أصول المعرفة والتنمية.
ويُعتبر البحث العلمي أحد أهم الوسائل الرئيسةِ لتبوّءِ أيّ دولة مكاناً مرموقاً في هذا العالم، كما يُعدُّ أحد المعايير التي يُقاس بها تقدّم الأمم ورقيّها، فضلاً عن أنّه ركنٌ أساسيٌّ من أركان المعرفة الإنسانية، والسِّمة البارزة للعصر الحديث، هذه المكانة هي التي جعلتْ الدول تُدرك قيمة البحث العلمي، وترفض أيَّ تقصيرٍ نحوه، لأنّها ترى فيه الدعامة الأساسية لنموها وتطورها، وبالتالي تحقيق رفاهية شعوبِها، والمحافظة على مكانتِها.
ومَعَ تزايد الإقبال على العلم توضّحت حاجة كل مشتغلٍ بالبحث العلمي إلى الأصول والقواعد المتعارف عليها في إجرائِه، والتي أضحَتْ موضوع البحث اليوم، إذ أنّ كل فرعٍ ناتجٍ عن أصل فهو مقبول، وكل فرعٍ لا ينتمي إلى أصلٍ فهو مردود، هذا هو مبدأ العِلم وأصلُ العمل.
ولو تطرقنَا إلى واقعِ البحثِ العلميِّ في الإطارِ العربيِّ لخرَجنا بحقيقةٍ مؤدّاها أنّ التقهقرَ العربيَّ، وضمورَ بُنيتهِ الثقافية، والسياسيةِ، والاقتصادية يرجعُ إلى "غُربةِ" البحثِ، وتصحُّر البيئاتِ المؤسساتية بسبب غيابِ زاد البحث العلميّ، وعدم استدخالِهِ في مفاصلِ الحياة، وتوطينه في مكامن صنعِ القرار، وحيّزِ السياسات.
هذا الواقعُ لا يمكن له أن يَشتمَّ رحيق التقدم والتمكين، طالما بقيَ البحث العلمي في أدنى سلّم الأولويات، ويُنظر إليه على أنه من المكمِّلات المعرفية، أو وسيلة لاستجلاب التمويل الخارجي، فالبحثُ العلميُّ هو تربيةٌ، وثقافةٌ، وضرورةٌ استراتيجيةٌ لنموّ المجتمعات، وتطورِها، والحفاظِ على مكتسباتها ومكانتها.
ورغم سوداويّة هذا الواقع البحثي؛ إلاّ أنّنا نلمس ضوءاً انسلّ نحو بيتِ البحث العلميّ العربيّ، ليُنيرَ ولو حيّزاً ضّيقاً من هذه العتمة البحثية، ويزيلَ بعضاً من نتوءاتِ تلك الغُربة التي بسببها أصبح العربُ بين رمضاء الانكماش الحضاريّ، ونارِ الاغتراب المعرفيّ.
هذا الضوءُ نشهده واقعاً محسوساً عبر المُخرَجات البحثية، والنّتاج العلمي والفكري لعددٍ غير قليل من الباحثين العرب والفلسطينيين، الذين بذلوا ـ ولا يزالون ـ جُهداً مُضنياً، وتواصلاً مخلصاً، للارتقاء بواقع ومستقبل العرب من زاوية الإضافات المعرفيّة المتميّزة.
هؤلاء الباحثون قدّموا لنا إسهاماتٍ علميةً ذات جودةٍ عاليةٍ رغم ما يعتري بيئة العرب البحثية من صعوباتٍ ليس أوّلها شُحّ المال، أو آخرها تضييق الحريات، والعداء للفكر القائم على التعددية، والتسامح، والمواطنة، هؤلاء انتموا للعلمِ، وأخلصوا للبحث، فكان الحقلُ خصباً، والبيدرُ غنيّاً.
وإذا ما اقتربنا بالحديث عن واقع البحث العلمي في فلسطين؛ فيُمكننا القول إنه رغم كثافة التّحديات التي تلتفُّ حول الفلسطينيّ؛ إلاّ أنه لم يُصَبْ بداء العجزِ أو الاستسلام؛ بل على العكس من ذلك؛ فقد امتشقَ سلاحَ العِلم، ليُصارعَ به مصفوفةَ الإقصاء، والتهميش، والتجهيل، التي يُمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحقِّ الفلسطينيين.
هذا السلاحُ الذي هو أحد أشكالِ المقاومة للفلسطينيِّ، فلا حرية إلا بعلم ولا تحرير إلا بقطاع بحثي رائد وصانع للاستقلالية الفكرية والصناعية والسياسية في العموم. العلم يمنح الشعوب الواقعة تحت الاحتلال سلاحاً ف علينا أن نولي له أهمية قصوى جداً. فعلى الحكومة، ومن خلال وزارة التعليم العالي أن تدعم الجامعات الفلسطينية ومؤسسات البحث وكل ما له علاقة بهذا الأمر بما يلزم من دعم فني ومالي وإداري بغية تطوير هذا الواقع الذي بحاجةٍ ماسة إلى الاهتمام به والالتزام بمطالبه. كما يتوجب على الحكومة، ممثلة بوزارة المالية أن تفرض نسبة، ولو قليلة جداًــ من الضرائب على الوقود وشركات التدخين لصالح القطاع البحثي. كما يتوجب على الحكومة أن تقتطع من وزارات أو قطاعات أخرى لصالح البحث العلمي، لا سيما من القطاع الأمني، والقطاعات ذات التكلفة العالية والنتاج الضئيل.
كذلك، يتوجب على الجامعات الفلسطينية أن تدرك أهمية البحث العلمي في التنمية والبناء والرقي، واعتباره عاملاً أساسياً في طريق الحرية والتحرر. فكثير من جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية والأكاديمية، وللأسف، لا تهتم بالبحث العلمي، وهذا ما يفقدها قيمة أساسية من مكانتها ومطلب ريادتها. فرغم وجود بعض المجلات الأكاديمية المحكمة التابعة لبعض الجامعات الوطنية، إلا أن عدداً ليس بالقليل من الجامعات تفتقر إلى ذلك، فضلاً عن افتقارها لمراكز بحثية تابعة لها.
كذلك، يتوجب على القطاع الحاص أن يقوم بما عليه من مسؤولية اجتماعية ووطنية عبر دعم ومساندة البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات البحثية الفلسطينية، إذ أن القطاع الحاص في معظم دول العالم المتقدم يولي أهمية كبيرة في ذلك من خلال تأسيسه لما يعرف بـ" الوقفيات الأكاديمية" والتي تتم عبر توقيف أو إيداع مبالغ مالية في هذه الوقفية " الصندوق المالي" من أجل الدعم البحثي لهذه المؤسسات الجامعية والمجتمعية.
الحديث عن أهمية البحث العلمي، وأهمية دعمه يطول ويتشابك، ولكن خلاصة القول: إنه لا يمكن لأي دولة أو مجتمع أو تنمية أو اقتصاد أن يكون له شأن أو مستقبل بدون بحث علمي. البحث العلمي هو العنوان لكل تقدم، وعتبة نحو الدخول في ميدان المستقبل الزاهر والإبداع الزاخر بالرقي والتنمية الحقيقية الحاملة لكل تمكين، والمؤسسة لكل قوة.
علينا أن نولي للبحث العلمي أهميته وإلا بقيت مكانتنا في الوراء. فمن لا يهتم بعلومه لا يمكن لمستقبله أن يكون مشعاً بالتغيير أو مشرقاً بالإبداعات.

• مؤسس تجمع " باحثون بلا حدود" ــ فلسطين