الأحد: 28/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

... رأيت مانديلا وفيصل الحسيني ولوركا وفوتشيك

نشر بتاريخ: 04/03/2019 ( آخر تحديث: 04/03/2019 الساعة: 12:11 )

الكاتب: عيسى قراقع

في قاعة المؤتمر السادس لجمعية نادي الأسير الفلسطيني رأيت مانديلا وفيصل الحسيني ولوركا وفوتشيك

بتاريخ 23/2/2019 عقد المؤتمر السادس لجمعية نادي الأسير الفلسطيني في مدينة رام الله تحت رعاية الرئيس أبو مازن وبحضور أكثر من 500 أسير وأسيرة محررة وكوادر وشخصيات وطنية وعائلات أسرى وشهداء من مختلف أرجاء الوطن، القاعة كانت ثقيلة الوزن كونها تمتلئ بمئات السنين الطويلة التي حملها الحاضرون على أجسادهم وأرواحهم في سنوات الاعتقال، مراحل متداخلة في تجربة الحركة الوطنية الأسيرة يمثلها الحاضرون، كل له حكايته وقصته وأحلامه الأولى والأخيرة، وفي ومجموعها كان المشاركون يعبرون عن تاريخ ومسيرة ونضال الأسرى الوطني والتحرري ضد الاحتلال والظلم وفي سبيل الحرية والكرامة.
التقى الأسرى المحررون في قاعة واحدة، وبأم عيني رأيت العناقات والدموع والحنين والأشواق خلال لقاءاتهم مع بعضهم البعض، بدأت الذكريات تنهال والروايات الممتزجة بالاعتزاز أحيانا وبالحزن أحيانا أخرى، فقد رحل الكثيرون وغابوا، وظلت صورهم تشع على جدران القاعة مصلوبة بمسامير الغياب والقيود، حركات الأسرى وملامحهم وتجمعاتهم وأحاديثهم تشير كأنهم في غرفة سجن أو في زنزانة أو في ساحة فورة، كل واحد له بطولة ومعانيات وأحلام تفوح منها رائحة الماء والورد والملح والمطر.
جمعية نادي الأسير الفلسطيني مؤسسة خلقت داخل السجن بأفكار وأمنيات الأسرى أنفسهم، خرجت من الظلام إلى النور لتصبح عنوانا شعبيا ووطنيا وبيتا جامعا لأنبل وأقدس قضية وهي قضية الإنسان الأسير، حملت همومهم وحكايتهم وصراخهم في ذلك الليل الطويل، سلطت انتباه البعيد والقريب والمؤسسات الأممية والحقوقية على جيش الأسرى وجنود الشعب الفلسطيني الذين ضحوا وقاتلوا من اجل حرية فلسطين وحق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني.
التقارير التي وزعتها هيئة النادي في المؤتمر لا تشير بشكل كاف إلى التفاصيل التاريخية لمؤسسة انطلقت بطهارة ونقاء واندفاع وشجاعة في الدفاع عن حقوق الأسرى كقضية سياسية وإنسانية، وإذا ما أردنا ان نوثق تاريخ انطلاق العمل الجماهيري والشعبي والدولي في الدفاع عن حقوق الأسرى وتحويلها إلى قضية وطنية جامعة وقضية دولية يجب ان نبدأ من خلال رسائل ووثائق وأرشيف ونشاطات جمعية نادي لأسير الفلسطيني، من ذلك المكتب الصغير إلى الشارع والمظاهرة والاعتصام والزيارة والعبور إلى كل الساحات الدولية.
ان فلسفة نادي الأسير ورؤيته جعلت من قضية الأسرى عبئا على المحتلين والسجانين، وان قضية الحرية والانعتاق من قيود الاحتلال هي الهاجس والهدف الأسمى لشعبنا الفلسطيني، وقد كشفت فعاليات ومؤتمرات النادي الوجه البشع والعنصري لطغيان دولة الاحتلال وانتهاكاتها الجسيمة لمبادئ حقوق الإنسان وللقانون الدولي، ودافعت المؤسسة بقوة عن شرعية ومشروعية نضال الأسرى كأسرى دولة فلسطين وأسرى حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وسعت مع كافة المؤسسات والجهات الرسمية إلى رعاية عوائل الأسرى والأسرى المحررين وتوفير سبل العيش الكريم لهم كواجب وطني وإنساني وأخلاقي، وتثبيت ذلك بأنظمة وقوانين وأعراف أصبحت جزء لا يتجزأ من معركة الدفاع عن حقوق الأسرى وتكريم نضالاتهم ووفاءً لتضحياتهم.
في قاعة المؤتمر السادس لجمعية نادي الأسير في رام الله قرأت رسائل صديقي قدورة فارس رئيس النادي الذي انتخب بالإجماع، رسائل قديمة على ورق الشفاف (كبسولات) مهربة من سجن جنيد في بداية التسعينات، للرسائل رائحة الحنين المحترق، ولكلماتها وقع قبضات تدق على الجدران وأبواب السجون، الكلمات أشخاص وأرواح ودماء، أحياء وشهداء ومواجهات، الرسائل أيقظت العالم من حولنا، وأيقظت السجانين والجلادين وأجهزة القمع والبطش في دولة الاحتلال، الرسائل هي أناشيد الأسرى وصوتهم العالي، هي إرادة الحياة تنتصر على إرادة الموت والنسيان.
في قاعة المؤتمر السادس لجمعية نادي الأسير كان الصوت الوطني هو الأعلى، الكلمات والمناقشات والمداخلات تنافست على اقتراحات لبذل مجهود اكبر لإنقاذ الأسرى مما يتعرضون له من جرائم وقمع وانتهاكات لحقوقهم السياسية والاجتماعية، تحول المؤتمر إلى منبر لفضح ممارسات الاحتلال في السجون وخارج السجون، والجميع كان حريصا على خلق مظلة حماية لقضية الأسرى وعوائلهم وتفعيل الجهود القانونية والإعلامية والسياسية لمواجهة الحرب والعدوان الذي شنته دولة الاحتلال على أسرانا وهويتهم الوطنية، كان المؤتمر سيد نفسه،لا املاءات من احد ولا اجندات خاصة، مارس الحرية في الرأي والتعبير والعمل الديمقراطي بكل شفافية، هي تجربة الأسرى أنفسهم داخل السجون عندما صنعوا دولتهم وكيانهم التنظيمي والاعتقالي متحدين شروط وقيود السجان...
ناقش المؤتمرون قرار حكومة اسرائيل بقرصنة اموال الشعب الفلسطيني تحت حجة اعانة عوائل الاسرى والشهداء والجرحى، مثمنين موقف الرئيس ابو مازن والقيادة الفلسطينية برفض هذا الابتزاز وهذه السرقة التي تستهدف تجريم نضال شعبنا المشروع، وقد قرا عريف المؤتمر بيان الرئيس ابو مازن بهذا الشان:
بسم الشعب والقيادة الفلسطينية اعلن رفض وادانة هذا القرار الظالم، ونؤكد اننا لن نستلم الاموال منقوصة قرشا واحدا، ولن نقبل بذلك اطلاقا، وان موضوع عائلات الشهداء والاسرى والجرحى، في سلم اولوياتنا القصوى، واي مبلغ يتوفر لدينا سيكون مخصصاً لهم، حتى يفهم الجميع ان الشهداء والاسرى والجرحى هم اعظم واشرف ما لدى شعبنا.
في قاعة المؤتمر السادس لجمعية نادي الأسير في رام الله رأيت نيلسون مانديلا حاضراً، وقف إلى جانب أبو علي شريم وفخري البرغوثي ومنير منصور وصالح السبتي وخالد الأزرق وزهرة قرعوش وعاطف وريدات وعدد كبير من الأسرى المحررين، وقال: ان حرية جنوب أفريقيا ستبقى منقوصة ما لم تحصل فلسطين على حريتها، فقد كنا نقاتل سويا، نموت سويا، من اجل حرية الإنسان وانعتاقه من براثن الظلم والاحتلال والعنصرية، وما دمتم انتم يا أبناء هذا الشعب لا تملكون حريتكم، فحريتكم حريتي، ولا يمكن الفصل بينهما، وأوصيكم بان الحرية لا تعطى على جرعات، فالمرء اما ان يكون حرا أو لا يكون حرا، فلتحكم الحرية، فلتحكم الحرية.
في قاعة المؤتمر السادس لجمعية نادي الأسير رأيت فيصل الحسيني حاضراً، كانت القدس مشتعلة في بوابات الأقصى وفي باب الرحمة، المسيحيون والمسلمون يتصدون للدفاع عن القدس العاصمة، ويتصدون لصفقة العار الأمريكية، وقف فيصل الحسيني وقال مخاطبا المؤتمرين:
اشتروا زمنا في القدس من اجل ان تبقى المؤسسات العربية قائمة، من اجل ان تبقى القدس عربية إسلامية مسيحية، اشتروا زمنا في القدس، أقول لكم ادخلوا بطن الحصان، لا تسالوا نوع الخشب، لا تسالوا ان ناله العطب، ادخلوا بطن الحصان، ولنجعل من دخول الحصان بداية العمل، ادخلوا القدس، اقفزوا عن الأسوار، كوني معنا في ساحة الأقصى، في ساحة القيامة، مع المرابطين والمرابطات، في الصلاة المشتركة والإيمان الأكيد بحتمية النصر.
في قاعة المؤتمر السادس لجمعية نادي الأسير رأيت الشاعر الاسباني فدريكو لوركا حاضراً وكان يتدلى من رقبته حبل المشنقة في سجون الطاغية الجنرال فرانكو، وقبل إعدامه عانق الأسرى الفلسطينيين في القاعة معتبرا ان قانون إعدام الأسرى الذي شرعه الكنيست الإسرائيلي وسائر القوانين العدائية والعنصرية لن تثني الشعب الفلسطيني عن الاستمرار في النضال في سبيل حريته وكرامته، قد يعدموا الجسد ولكنهم لن يستطيعوا إعدام إرادة شعب متعطش للحرية، وقرا لوركا قصيدته المشهورة:

وعرفت إنني قتلت
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمداخن الكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثث
ونزعوا أسنانها الذهبية
ولكنهم لم يجدوني قط

في قاعة المؤتمر السادس لجمعية نادي الأسير في رام الله رأيت المناضل يوليوس فوتشيك حاضرا، كان يتدلى تحت أعواد المشانق في السجون النازية في ألمانيا، وقف فوتشيك وخاطب الحاضرين قائلا:
سيأتي وقت يكون فيه هذا الحاضر ذكرى، وسيتحدث الناس عن عصر عظيم، وعن أبطال مجهولين صنعوا التاريخ، وليكن معلوما أنهم كانوا أبطالا مجهولين وأنهم بشر لهم أسماء وقسمات وتطلعات وامال، وان عذابات اصغر هؤلاء شانا ما كانت اقل من عذابات أول من خلدت أسماؤهم، وقال فوتشيك بوسع الطغاة ان يسلبوا الحياة منا ولكنهم لن ينتزعوا شرفنا وحبنا أبدا، فقد عشت للفرح وفي سبيل الفرح أموت، ولسوف تسيئون لي لو وضعتم ملاك الحزن على قبري، الموت للفاشية والحياة للإنسانية، فالإنسان لا يصغر حتى لو قطعوا رأسه.