السبت: 27/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

القيادة الفلسطينية وسوء التقدير!

نشر بتاريخ: 05/03/2019 ( آخر تحديث: 05/03/2019 الساعة: 12:15 )

الكاتب: د.ناجي صادق شراب

سوء التقدير في السياسة ظاهرة طبيعية وتتفاوت من نظام سياسي إلى آخر إستنادا إلى الحسابات العقلانية وإنفتاح صانع القرار السياسي على كل المتغيرات والمحددات التي تحكم قراره السياسي.
وسوء التقدير يقصد به عدم الإلمام الدقيق والكامل للمتغيرات والمحددات التي تحكم القرار السياسي، والإستناد فقط على الرؤية الذاتية لصانع القرار، وحصر القرار السياسي برهانات سياسية تقع خارج دائرة نفوذه وتحكمه، والنتيجة الحتمية قرار سياسي خاطئ، وتداعيات سياسية كارثية ليس فقط على صانع القرار السياسي بل على مستوى الدولة والشعب. فالقرار السياسي بيئة سياسية داخلية وخارجية شاملة، وعدم التفهم لها تترتب عليه نتائج خطيرة، لأن القرار السياسي للحاكم يمس مستقبل دولة وشعب... هذا في الحالة الطبيعية للدول، فما بالنا في النموذج الفلسطيني المعقد والذي تتحكم وتسيطر عليه المتغيرات الخارجية دورا أكبر. 
وتعقيدات القرار السياسي الفلسطيني نابعة من تعقيدات القضية الفلسطينية وكثرة وتناقضات متغيراتها الإقليمية والدولية، فالعلاقة هنا تصارع وتصادم بين القرار السياسي بين محدداته الداخلية ومحدداته الخارجية. 
وفي قراءتي للعديد من القرارات السياسية ألاحظ ظاهرة سوء التقدير والرهان على حسابات غيبية، والأمر هنا ليس قاصرا فقط على صانع القرار صاحب السلطة، بل يمتد لكافة القيادات على مستوى كل الفصائل الفلسطينية. الفردية والغيبية واللاعقلانية والرهائنية من سمات القرار السياسي وسوء التقدير. والمخرجات مزيد من التراجع وعدم الإنجاز وإضاعة الفرص، فالسياسة في النهاية قوة والقوة أوراق تفاوضية توظف في المكان والوقت المناسب. 
ويستحضرني هنا تصريح غير مسبوق للسيد هاني الحسن رحمه الله وقد كان وقتها مستشارا للرئيس عرفات وأحد فريق صنع القرار واصفا القيادة السياسية والمنظمة بالجهل والجبن، وهو لم يقل الخيانة فهذا فرق كبير، لأن القيادة الفلسطينية لم تكن في أي وقت خائنة لقضيتها ولشعبها وهذا يسجل لها لكنها تحاسب لسوء تقديرها وحساباتها الخاطئة، وهب التي اوصلتنا للحالة السياسية المزدرية الآن من الإنقسام والإنفصال ومظاهر الفشل الكثيرة، لا يعني ذلك تقليل من إنجازات تحققت لكن الكثير من القرارات السياسية حكمها سوء التقدير والرهانات السياسية غير المحسوبة، وعدم القراءة الدقيقة للمتغيرات الإقليمية والدولية والتحولات في موازين القوى التي كانت اسرع من القرار السياسي الفلسطيني الذي جاء أقل إستجابة وقدرة وتكيفا معها، والنتيجة الحتمية ان هذه المتغيرات والتحولات كانت اكبر من الحسابات والتقدير. ولعل احد المظاهر السلبية والتي ما زالت مسيطرة ومتحكمة في القرار السياسي على كافة مستوياته التمسك بالثوابت، وعدم مراعاة المتغيرات والتحولات، الكل يتكلم عن المصالحة مثلا كـ ثابت، لكن أين الحسابات والتغيرات التي تحكم القرار السياسي، الكل يراهن على مواقف وأحداث سياسية ما زالت في عالم الغيب. والأمثلة كثيرة على سوء التقدير والرهانات السياسية، وأبرزها مسألة التسوية السياسية والعملية التفاوضية، من منطلق عدم فهم طبيعة التوازانات الإقليمية والدولية، والتحولات في موازين القوى.
وبرز سوء التقدير في عنصر الوقت وعدم الإستفادة منه وتوظيفه بما يخدم الأهداف الفلسطينية، وأقصد بذلك انه في لحظة زمنية كان يمكن الحصول على اكثر بكثير من تحييد وتأجيل عنصر الوقت. السياسة والقرار زمن معين، وإساءة التقدير برزت في عدم القدرة على تغيير المسار التفاوضي، والتنازلات التي قدمت قبل بدء العملية التفاوضية، وعدم القدرة على التمييز بين التفاوض والتنفيذ. ولعل من أبرز الأوراق التفاوضية التي أُسيءَ تقديرها ورقة الإعتراف.... كان يفترض ربطها منذ البداية بالإعتراف بالدولة الفلسطينية، وما كان معروضا كان اقل من الطموحات الفلسطينية، ولذلك بدأ سقف التفاوض بالقليل، وكان يفترض العكس تماما. 
ولعل أيضا من إساءة التقدير حاجة الولايات المتحدة لتحقيق إنجاز سياسي بعد حرب الخليج، والمفتاح كان بيد الفلسطينيين، الدول العربية. ولم يتم الإستفادة من ذلك... وسوء التقدير تمثل في التنازل عن ورقة المبادئ التي أقرها المجلس الوطني للتفاوض مثل التأكيد ان منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد وتمثيل القدس، وممارسة حق تقرير المصير... وأن قرار 242 للتنفيذ وليس للتفاوض... هذه المبادئ تم التخلي عنها، والاسوء قبول ورقة الدعوة لمؤتمر مدريد التي تتحدث عن التفاوض وليس التنفيذ، والتي لم تُشر لإزالة الاحتلال، بل تحدثت عن ترتيبات الوضع الدائم والتي فسرت إسرائيليا بحكم ذاتي.
وسوء التقدير تمثل فيما عرف بوثيقة ستانفورد والتي تم الاتفاق عليها بين منظمة التحرير ووفد شعبي إسرائيلي، والتي حددت فلسطين بالضفة وغزة والعودة للدولة الفلسطينية مما فسر معه انه تنازل عن حق العودة. 
هذه بعض مظاهر سوء التقدير والتي ما زالت صورها قائمة، وليست قاصرة على صناعة القرار بل تشمل قادة الفصائل، ولعلي أُنهي بسوء التقدير والحسابات الخاطئة لمسألة المصالحة والمراهنة على مواقف الدول الأخرى كإيران وتركيا، وان الوقت يعمل لصالحنا، أختصر عدم المصالحة سوء تقدير سنجني نتائجه الكارثية مسقبلا. 
ويبدو لي أن هناك بعض الإرهاصات لتفادي الخبرة السابقة كما برز الآن في رفض صفقة القرن وعدم العودة للتفاوض دون مرجعية محددة، وموقف واضح من الدولة الفلسطينية، لكن يبدو ان عنصر الوقت لا يعمل الآن لصالح القرار الفلسطيني، وهو ما يستلزم إعادة صياغة إطار صنع القرار وترشيده ببناء نظام سياسي ديموقراطي، ورؤية المستقبل بعقلانية وموضوعية...والنصيحة الخيرة لا تتأخذ قرار في غير وقته وأنت تحت الضغط.