الجمعة: 24/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

نائل ونخلة عسقلان يتناجيان : لا عذر اليوم لأحد ..

نشر بتاريخ: 31/10/2019 ( آخر تحديث: 31/10/2019 الساعة: 11:49 )

الكاتب: وليد الهودلي

كانت نخلة عسقلان أنيسا جميلا لنزلاء ذاك الفندق القاسي قساوة سجّانيه ، ارتوى من الماضي السحيق وكأنه قد شرب مياه المتوسط من زاويته الجنوبية الشرقية ، نزلاؤه قد أُكرهوا على أن يرابطوا طويلا في هذا الثغر، وكانت النخلة لهم مثالا شامخا باسقا يُظلّل أرواحهم بما شهدته أيامها المديدة على هذه الارض ، كانت تبدو بتاريخ لا بداية له، قشورها السمراء العتيقة تحمل في ثناياها حكايات قرون طويلة، تواجه رياح الغرب العاتية وتستمسك بأرضها التي رسخت فيها جذورها ، حفيفها ربيعا وصيفا يناجي أسرانا ويبث لهم حنينا سخيا رخيّا ناعما ، في الخريف والشتاء تعلن الغضب فتشتم السجان كل دقيقة ألف مرّة ، تقف في وجه رياح البحر العاتية وكأنها تمنعها من أن تمسّ أسرانا باذى ، تنافح بكل ما أوتيت من قوّة وتنازع شرّهم بارادة لا تلين ولا تستكين ، اسرانا يستمدّون من شموخها وكبريائها مزيدا من النخوة العالية ، روحهم تجد نفسها معلقة بروح هذه النخلة السامية ، تجود عليهم ويجودون عليها فكانوا معها روحا واحدة، وشكلوا سوية تظاهرة كونية تظهر نشاز ذاك العدو المتربص بهما والذي لا يروق له الا أن يصب عليهم أذاه وشرره المستطير.
في ذات ليلة من ليالي الظالمين الحالكة حيث استعر الحقد في صدورهم وأخرجوا كل ما فيها من سواد ، تقاطر صديد قلوبهم واتخذوا قرارا أرادوا به الشماتة وإغاظة قلوب عشّاق كل من رام أن يكون ساميا سموّ هذه النخلة ، جاءوا بمناشيرهم وتجلّت جريمتهم النكراء بقصّ جذع هذه الشجرة ، كيف هي قلوبهم التي لا تحسّ ولا تسمع أنين هذا الجذع وكيف لا ينظرون الى تاريخ وماض شكلت هذه الشجرة ملاكا فيه ، لم تشفع لهم عراقتها ولا شواهد على عصور خلت وأمم قد ساكنتها وتنعمت بظلها وروعة ثمرها ، كانت قلوبهم أقسى من نصل المنشار الذي حملته أيديهم المجرمة، وكانت نفوسهم أعظم اجراما من هذا النصل الذي سرى في جسدها . لقد نجحوا في قصّ الجذع ولكنهم فشلوا فشلا ذريعا في اجتثاث الجذور ، لم يسعفهم غباؤهم ولا جريمة اللحظة أن يروا أن هناك جذورا تحت الارض لا تراها عيونهم التي لا تقرا التاريخ ولا تدرك معادلاته التي لا تخطىء أبدا .
نائل البرغوثي عندما يغيبونه في غياهب سجونهم يبرهنون فشلهم الذريع في اجتثاث جذوره، ولا يسعفهم غباؤهم ولا جريمتهم التي تعميهم عن قراءة التاريخ وادراك معادلاته التي لا تخطىء أبدا .
لقد شكل نائل البرغوثي مثالا رائعا مثل هذه الشجرة، في نفسه الجبارة وقلبه الفسيح وجذوره الراسية وجبهته السامقة، كان ظلا ظليلا لارواح جميلة تشكلت من الالاف المؤلفة التي عايشت سجن عسقلان وبقية منازل الموت التي نشرها المحتل في ربوع فلسطين، كلّ أسير ينظر الى نائل كما ينظر الى تلك النخلة العسقلانية الباسقة ، يجد فيهما التاريخ بعنفوانه ورسالته الحضارية العالية، يجد فيهما كل القيم الانسانية السامية ، يجد الحرية بقممها الرفيعة ويجد الكرامة بروحها النديّة الباهية ، يجد الصبر والصدق والمحبة وكل المشاعر البشرية بضيائها الزاهية ، يجد فيهما القضية وفلسطين بكل ألوانها الساحرة .
نائل قضية كما وصف كنفاني انسانه العظيم ، لم تنفصل أية عروة من عرى التحامه بالقضية منذ اللحظة الاولى التي مُدتّ جذوره فيها الى اليوم حيث الاربعين سنة، ما زال راسخا شامخا كتلكم النخلة العسقلانية،ما الذي يميزه عنها هو أنهم استطاعوا أن يُعملوا نصالهم في جذرها بينما جذر نائل أقوى من كل نصالهم، ما زالت كفّه تناطح مخرزهم فتزيدهم خبالا وإمعانا في جني حصاد جرائمهم ، ما زالت المدرسة العسقلانية لنائل مشرّعة الابواب ، وما زالت تخرّج الابطال ومعقلا لصناعة الاحرار ، لقد أخرجت لهم نورا يبدد عتمة ظلمهم ونارا تحرق ساديّتهم، خرجت لهم صالح وعاصم من ذات الشجرة العسقلانية والمئات ممن ينتسبون لذات المدرسة .
نائل كتلكم الشجرة التي ناجاها وناجته عشرات السنين، فهم لغتها وفهمت لغته، مدت جذورها عميقا لانها تدرك خطرهم المستطير على جمال شهودها وثمار منتوجها فوق الارض ، ونائل أيضا مدّ جذوره عميقا لأنه يدرك أيضا أن هذا المحتل لا يروق له ان يرى نائل بجمال شهوده على هذه الفلسطين ولا يروق له أن يرى عظمة الثمر لهذا النائل ، وطالما أنهم لا يصلون ولا يتمكنون من الجذور فلن يكون لهم مستقبل على هذه الارض ذات الجذور الراسية ، هم لا تاريخ لهم ولا حاضر يقيم لهم استقرارا ولا مستقبل يلوذون اليه اذا عصف بهم التاريخ عدالته .
نائل اليوم مع دخوله الاربعين سنة في منازل الاموات هو حيّ يرزق وهو بحياته ذات الجذور العميقة يمدّنا بالحياة ، نائل وشجرة عسقلان يقولان اليوم :
• لا عذر لأحد بعد دخول نائل الاربعين ، لا عذر لمن يهربون من سطوة الجلاد ليلعبوا دور الضحية فيتماهون فيها دون ان تكون لهم عزّة تنتفض في جوانحهم .
• لا عذر اليوم لمن قال عن نفسه أنه قضية أن لا ينتصر لتلك الجذور العميقة ، لا عذر لمن لا يرى جذوره الراسخة ، لا عذر لمن لا يريد لها ان تنبت جذورها فوق الارض وأن تخرج للناس ثمارها .
• لا عذر اليوم لمن ينام طويلا وأنّات سامر العربيد تعلو فوق رؤوس الجميع ، لا عذر اليوم لمن يصمت ودوي الامعاء الخاوية يصخ كل أذن حرة أبية .
• لا عذر اليوم لمن لا يتلقى درس الشجرتين: العسقلانية والكوبرية والتي ملأت العالمين برسائلها الثورية النقية .
• لا عذر اليوم لكل من كان له جذر أو ألقى السمع لكل هذه الجذور الراسخة .
الا من يبلغ عنا :
شجرة عسقلان ونائل وكل بواسلنا وباسلاتنا بأن رسائلكم قد وصلت وبانت بيان الشمس الساطعة .