الخميس: 18/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الاستجابة الفلسطينية لتحدى وباء كورونا و"صفقة القرن"

نشر بتاريخ: 06/04/2020 ( آخر تحديث: 06/04/2020 الساعة: 13:32 )

الكاتب: د. نايف جراد

تستحوذ مسألة الاستجابة لتحدى جائحة كورونا المستجد (COVID – 19) على مجمل الاهتمامات الرسمية والشعبية في الآونة الأخيرة. وهذا أمر طبيعي، نظرا لخطورة هذا الفايروس وما يسببه من وباء على حياة الانسان، والتي هي في الظرف الفلسطيني على صلة وثيقة بقضية المناعة الوطنية والوجود والبقاء، التي تمثل الركيزة الأساسية للأمن الوطني والقومي الفلسطيني. وفي هذه المقالة، أحاول أن أكشف الأسباب والعوامل الأساسية، التي تؤثر سلبا على الوصول الى درجة عالية من الاستجابة الفلسطينية لمواجهة انتشار الوباء الذي يسببه فيروس كورونا المستجد ونجاعة مكافحته والتعافي منه. وإنني أجادل هنا، بأن الاستجابة الفلسطينية تدل على مستوى عال من النضج للمؤسسة القيادية والمؤسسات والهيئات الصحية والأمنية والمساندة لها، وأن غياب ممارسة السيادة الوطنية على أراضي وسكان إقليم دولة فلسطين المحتلة واستمرار الاحتلال الاستيطاني الاستعماري الصهيوني وسياساته القمعية والتمييزية العنصرية، هي السبب والعامل الأساسي وراء النواقص والثغرات التي تعتريالاستجابة المثلى من قبل المؤسسات والمجتمع الفلسطيني، وبالتالي ليس المطلوب للشعب الفلسطيني أن تمكن مؤسساته ومجتمعه بخطة جديدة لوهم سلام مزعوم لتحقيق الازدهار عبر اطلاق العنان للقدرات البشرية والفرص الاقتصادية، بل أن يمكن الشعب الفلسطيني من نيل حريته وممارسة سيادته الوطنية، الداخلية والخارجية، بشكل كامل دون نقصان.

إن التحدي  الذي عبر عنه انتشار فيروس كورونا المستجد، كمتغير يمثل صعوبات وعوائق خلقت ظرفا غير ملائم، يشكل استمراره وبقاؤه أزمة للأمن الصحي في فلسطين ومجمل القيم الوطنية، لم ينشأ من بيئة داخلية، بل خارجية دولية، أملت علينا كشعب فلسطيني أن نتصدى لمجابهته، كي لا ينزلق إذا ما ترك، إلى مخاطر كبيرة وتهديدات محدقة فعدائيات مستفحلة، تُفاقم المخاطر والتهديدات والعدائيات الموجودة أصلا، التي يسببها الاحتلال الاستعماري لفلسطين ومخطط ترامب ونتنياهو المعروف ب “صفقة القرن"، التي تستهدف الوجود الوطني والحقوق الوطنية المشروعة.

الاستجابة الفلسطينية لهذا التحدي، وبشهادة منظمة الصحة العالمية ودول كثيرة في العالم، شكلت نموذجا محترما، يثمن ويقدر، سواء على صعيد سرعة التأهبوالاستجابة أو في منحى القرارات العليا أو مضمون السياسات والبرامج الخاصة بالوقاية والمكافحة، او على صعيد إدارة الأزمة،وأدوات وفرق الإدارة وحشد الموارد، وهيكل وآليات التأهب والرصد، ومعايير الاستجابة الطبية والأمنية، وآليات تبادل وتشاطر المعلومات بشفافية عالية. وبشكل عام يمكن أن يقال، وبالفم المليان وبالكلام القاطع، أن استجابة السلطة الوطنية الفلسطينية، ممثلة بقرارات ومراسيم الرئيس محمود عباس وقرارات وإجراءات حكومة الدكتور محمد اشتية، واداء المؤسستين الصحية والأمنية، ومبادرات القوى السياسية الفاعلة ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، قد حاكت وبجودة عالية المعايير التي تنص عليها لوائح الصحة العالمية لعام 2005، وقرارات منظمة الصحة العالمية، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 60/195(إعلان هيوغو) وإطار عمل هيوغو 2005/2006، وحتى جدول الاعمال الخاص بالأمن الصحي العالمي، الذي أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية عام 2014، وإطار سنداي للحد من الكوارث 2015 – 2030، والقاضية بأن تقوم كل دول العالم بالعمل على منع انتشار الأوبئة والتأهب للأزمات والكوارث، والكشف عن التهديدات في وقت مبكر والتحضير والاستعداد لمواجهتها والتخفيف من آثارها، والاستجابة السريعة والفعالة لمواجهة تهديدات الأوبئة والكوارث، والعمل على التخطيط للتعافي من تداعياتها وآثارها. ولا يعني هذا أبدا، أنه لا توجد ثغرات ونواقص وأخطاء في أداء المؤسسة والمجتمع، بل هي موجودة، وكثيرة. ولكن هذهالنواقص والثغرات والأخطاء، وكما بينت التجربة بالملموس لا تختلف عن النواقص والثغرات والأخطاء، التي اعترت وتعتري استجابات دول كبرى وعظمى، بل إنها في فلسطين أقل بكثير، ولا تقارن بسبب الفجوة الكبيرة في الإمكانيات والقدرات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية بين فلسطين ودول العالم المتقدمة، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الاحتلال الصهيوني الاستعماري. بل ان فلسطين، بحكومتها وشعبها ومؤسساتها، ورغم شح الموارد، قد بينت أنها تمتلك قدرات متميزة في الموارد البشرية، وقدرات كفؤة وفعالة للتواصل والتنسيق الداخلي، وللتواصل والتنسيق الخارجي مع منظمة الصحة العالمية والجهات المختصة في الإقليم والعالم، وكذلك قدرات في توطين المعايير الدولية وشروط الاستجابة السريعة والفعالة، وكذلك قدرات وإمكانيات لتكافل اجتماعي غير موجود في الكثير من الدول والمجتمعات التي فقدت القيمالاجتماعية الحميدة جراء سيطرة علاقات السوق وروح التنافس المتوحش.

نعم إننا نعترف بان تجربة مواجهة انتشار فيرس كورونا ومكافحته على الصعيد الفلسطيني أظهرت الكثير من النواقص والثغرات والأخطاء في الوضع الفلسطيني العام ودرجةالاستجابة الفلسطينية، منها ما له أسباب وعوامل داخلية، ومنها ما له أسباب وعوامل خارجية. وفي الأسباب والعوامل الداخلية، يمكننا الإشارة إلى عدم القدرة على أنفاذ مرسوم الطوارئ في كل الأراضي المحتلة عام 1967 بحكم رفض سلطة الأمر الواقع في غزة، وبحكم عدم القدرة على ممارسة السيطرة على القدس الشرقية وأجزاء واسعة من الضفة الغربية بسبب سيطرة الاحتلال، كالمنطقة المصنفة (C) و(H2)، وغياب السيطرة على الحدود ونقاط العبور.

إن التمعن بنقاط الضعف في التأهب والاستجابة والمكافحة الفلسطينية لانتشار الفيروس ومعالجة المرضى، يظهر أنها تتعلق أساسا بالقادمين من الخارج، والداخلين لمناطق السلطة من إسرائيل، والعمال العاملين في إسرائيل والمستوطنات، ومكافحة انتشار الفيروس والوباء في القدس الشرقية، وفي مناطق C وH2، تبين بالملموس، أن ما ينقص الشعب الفلسطيني أساسا، وفي المقام الأول، ليس مؤسسات دولة مُحوْكَمَةعلى مقاس البنك الدولي، ولا قيادة فلسطينية تؤمن بالسلام وقيمة الانسان، ولا برنامج تدريبي للمؤسسة الأمنية لاختبار قدراتها في أداء مهامها واحترام التزامات الدولة،ولا لمشاريع لتحسين مستوى المعيشة"والارتقاء الاجتماعي، ومكان محترم في المنطقة، وبين دول العالم أيضا"، ولا نظام قانوني يحمي الاستثمارات، ولا منطقة سياحية في عطاروت، ولا شركة لترويج السياحة الدينية،ولا لشبكة مبتكرة من الطرق والجسور والأنفاق تربط بين المناطق، ولا لبنية تحتية تربط فلسطين بدول الإقليم، ولا لمشاريع لتطوير مؤسسات ووسائل التعليم والاعلام والمناهج التعليمية وإدخال التعليم الاليكتروني الجديد، ولا ضمان منالية وجودة الرعاية الصحية وتحسين الرعاية الوقائية،ولا لكل الترهات الموجودة في صفقة القرن بجزيئها السياسي والاقتصادي. فلدى فلسطين مرتكزات وأساسات ذات جودة عالية لتحقيق كل ذلك، بل والإبداع فيه، والتجربة تدل بالملموس بان الشعب الفلسطيني لقادر ان يرتقي بأداء مؤسساته وجودة الخدمات التي تقدمها إذا ما أتيحت له الفرصة وتمكن من استثمار طاقاته الحاضرة والكامنة. فما ينفص فلسطين هو زوال الاحتلال والاستيطان الاستعماري، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة سيادته الوطنية على أرضه وحدوده واجوائه ومصادره الطبيعية.

نعم إن قلة فرص الفلسطينيين هي مسؤولية إسرائيل أولا وأخيرا، فهي التي تمنع مؤسسات السلطة من السيطرة على الحدود والمعابر التي يأتي منها الوباء، وهي التي تصدر للسوق الفلسطيني البضائع التي يمكن ان تكون ملوثة، وهي التي تتحكم باستيراد الفلسطينيين وحصولهم على الدواء والأجهزة اللازمة لمكافحة المرض والشفاء منه، وهي التي تحاصر غزة وتمنع دخول الأدوية والمستلزمات الطبية إليها، وتريد مقايضة حياة مليوني انسان ببقايا جثث فيما تحتجز أكثر من (5000) أسير فلسطيني رهائن لديها معرضة صحتهم وحياتهم للخطر، وهي التي تطلق العنان لقطعان مستوطنيها ومجموعاتها الدينية المتطرفة التي يعشعش في أجسادها المرض لتعيث فسادا في الأحياء والأرجاء الفلسطينية مستهترة بحياة الانسان مدفوعة بأساطير القيامة والخلاص.

نعم...إنها حرية الفلسطينيين وسيطرتهم وممارسة سيادتهم الكاملة غير المنقوصة هي ما ينقص الشعب الفلسطيني وقيادته لكي تكون فلسطين في مكانتها المرموقة بين دول وشعوب العالم، وهي التي يمكنها أن تخلصه من التبعية للغير، ومن مضاعفة ناتجه الإجمالي المحلي وخلق الوظائف وتقليل معدل البطالة والفقر. وقد بينت الجائحة التي يعيشها هذا العالم، أنه ورغم العولمة والاعتماد المتبادل، أن معالجة الهموم والانشغالات العملية والتشغيلية المؤثرة في الأمن والصحة العامة والرفاه والازدهار، تكون أولا على المستوى الوطني والقومي، وتحتاج لمؤسسات دولة تمتلك السيادة السياسية والطبية. وعليه لا بد من تغيير الأمر الواقع الاحتلالي المفروض على الفلسطينيين، الذي يحرمهم من ذلك، لا الخضوع له والبناء عليه، واستخدامه ذريعة للقول إن السيادة ليست حاجة وطنية للفلسطينيين، وأنها ليست حجر عثرة في تعزيز الأمن والازدهار، وأنها بالتالي يجب ان تكبل وتقيد بشروط بقاء السيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية على كل الأرض الفلسطينية وحدودها واجوائها.

إن صحة الشعب الفلسطيني وحياته الكريمة وبقائه ووجوده ومناعته الوطنية، وتعزيز قدرته على مواجهة تحديات الأوبئة والكوارث، والتعافي بجدارة منها، منوطة أولا وقبل كل شيء بحريته واستقلاله وسيادته الوطنيين، وهذا ما يجب أن يبقى في عين المنظار ونحن نتصدى لمكافحة وباء كورونا، وتجاوز هذه المحنة، حتى نستطيع أن نتجاوز "صفقة القرن" وأرسالها إلى الجحيم ومزبلة التاريخ.