الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

لهذه الأسباب ستنفذ "إسرائيل" خطة السطو على أجزاء من الضفة

نشر بتاريخ: 13/05/2020 ( آخر تحديث: 13/05/2020 الساعة: 18:19 )

الكاتب: د. حسن أيوب

الإطار السياسي الراهن

في أول زيارة له خارج الولايات المتحدة الأمريكية منذ انتشار وباء كورونا، يصل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى "اسرائيل" يوم الأربعاء ، وهي زيارة غير مخططة مسبقا، ولكن سبقها حضور أمريكي سياسي ودبلوماسي صارخ ذو صلة بإعلان بنيامين نتنياهو عن خطة "ضم" أجزاء من الضفة الغربية (بما فيها غور الأردن والكتل الاستيطانية) إلى السيادة الاسرائيلية. فقد أعلن بومبيو قبل أسبوعين بأن هذا الموضوع هو شأن "اسرائيلي" داخلي، وتبعه سفيره في تل أبيب ديفيد فريدمان بتصريحاتتحث حكومة نتنياهو-غانتس على الإسراع بهذه الخطوة، والتي -حسب تعبيره- ستحظى باعتراف بلاده خلال أسابيع قليلة من تنفيذها. على هذا الأساس يمكن فهم زيارة بومبيو الوشيكة على بأنها الجهد الأمريكي الأخير لترسيم تلك الخرائط التي عمل على إعدادها فريق أمريكي-اسرائيلي بُعيد الإعلان عن صفقة القرن، وربما التفاوض مع الحكومة الاسرائيلية حول بعض الجوانب ذات الصلة بالكم الذي ستسطو عليه حكومة الاحتلال من أراضي الضفة الغربية المحتلة، والوقوف على التقديرات الأمنية والسياسية لتداعيات هذا السطو، وعلى رأسها الردود الفلسطينية والعربية المحتملة.

بالمقابل، ستجتمع اللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الفلسطينية يوم الخميس -في اليوم التالي لزيارة بومبيو، لبحث الردود الممكنة على الخطة الاسرائيلية. إذ لا يبدو -حتى اللحظة- بأن لدى القيادة السياسية الفلسطينية أكثر من الرفض الصريح دون امتلاك استراتيجية تحرك لا تنتظر ما يمكن أن تسفر عنه مفاوضات بومبيو مع نتنياهو. وأغلب الظن بأن توقيت اجتماع تنفيذية المنظمة مرتبط بما يمكن أن يرشح عن لقاءات بومبيو في تل أبيب، حيث تقول الإدارة الأمريكية بأن قبول والاعتراف بهذا السطو مرتبط بتنفيذ "اسرائيل" لباقي بنود صفقة القرن. هذا الإعلان يعتبر بمثابة الفخ الذي تريد واشنطن إيقاع الفلسطيننين فيه من باب أن يقدموا تصوراتهم وردودهم على صفقة القرن. ما أقصده بالاستراتيجية الفلسطينية النقيضة لا ينطلق من صفقة القرن، بل يشكل نقيضها ونفيها، وليس تعديلا عليها مثلما يقترح طل من دينيس روس وديفيد مكوفسكي في مقالتهما المنشورة في صحيفة القدس المقدسية بتاريخ 9/5 الفائت. إن مثل هذه الاقتراحات -وهي تأتي من شخصيتين من الفريق الأمريكي الذي يشكل ما يعرف باسم "محامو اسرائيل" في واشنطن تنطلق من التسليم الأولي "بحق" اسرائيل في عدم العودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967، ومن منح أمن اسرائيل كيفما أرادت تل أبيب تعريفه الأولوية على الحقوق الفلسطينية.

إن استراتيجية فلسطينية فعالة في مواجهة الخطة الأمريكية-الاسرائيلية لابتلاع أجزاء من الضفة الغربية يجب أن تنطلق من التسليم بأن الحكومة الاسرائيلية ستقوم بالفعل بتطبيق هذه الخطوة. وهذا ليس رجم بالغيب. بل سيكون من المخالف للمنطق والخبرة التاريخية توقع تراجع "اسرائيل" عن هذه الخطة. الأمر في أصله مرتبط بالسعي الصهيوني-الاسرائيلي الدؤوب منذ الإعلان عن نشوء دولة "اسرائيل" لتوسيع نطاق استعمارها-الاستياطاني ليشمل ما تبقى من فلسطين بعد قرار التقسيم. فقد اعتبر بن غوريون بأن هذا القرار إنما يعرف حدود الدولة، ولكنه لا يشمل "أرض اسرائيل"، وثمة فارق هائل بين الأمرين. وفي مناسبة أخرى قال بن غورين بأنه يأخذ بمبدأ أن عدم تحقيق سلام مع العرب يمكن "اسرائيل" من الاحتفاظ بأراض احتلتها، أفضل من سلام "ستتنازل" بموجبه عن هذه الأراضي. هذا ما يفسر إلى حد بعيد النزعة العسكرية والجيو-سياسية التوسعية (بتأثير واضح من مدرسة كارل هاوشوفر التي كانت أحد موجهات سياسات ألمانيا النازية) الاسرائيلية التي أعقبت حرب 1948، وأهمها حرب السويس في العام 1956.

الجذر التاريخي لأطماع الصهيونية في الضفة الغربية

بدأت دولة "اسرائيل" بالإعداد لعدوان العام 1967 مبكرا في أعقاب ما اعتبره قادة الجيش والصقور خسارة تاريخية للإنجاز العسكري بالوصول إلى قناة السويس. بعضهم اتهم بن غوريون باللاوطنية بسبب قبوله الانسحاب، وظل هاجس تغيير الحدود بالحرب قائما في أوساط القيادات السياسية والعسكرية الاسرائيلية وبشكل خاص العسكرية صاحبة النفوذ الكبير في صنع السياسات. في العام 1963 قدمت قيادة هيئة الأركان تقييما لرئيس الوزراء ليفي أشكول تطالبفيه بحرب جديدة، ولم تكن عمليات الاستزاف على الجبهة السورية أو مسألة تحويل مياه نهر الأردن إلا أسباب إضافية للرغبة الاسرائيلية العميقة بتوسيع حدود الدولة لتشمل ما تبقى من فلسطين، مدفوعة بأفكار "حركة الكيبوتس الموحد" بكل عدوانيتها ونزعتها التوسعية التوراتية. بهذا المعنى فإن العقيدة الصهيونية مارست -ولا تزال- السياسة باعتبارها امتداد للحرب، وليس كما قال المفكر كلاوسوفيتزبأن الحرب هي امتداد للسياسة. عبر عن ذلك عيزر وايزمان الذي كان في حينه قائد سلاح الطيران حين قال لرئيس الوزراء: "يجب أن تطبق اسرائيل مقاربتها الهجومية وتتجنب الموقف الدفاعي". وفق هذه "الواقعية الهجومية" Offensive Realism تقدمت "اسرائيل" باستمرار لتحقيق أهافها التوسعية؛ فما تكسبه في الحرب يتحول إلى حقيقة على الجميع التعامل معها، وسيجعل الاخرين عاجزين عن المواجهة، أما في الدفاع فإن عليك تقديم التنازلات.

لم تتوقف "اسرائيل" ولو ليوم واحد منذ العام 1967 عن تحويل المناطق الفلسطينية المحتلة إلى حيز جيو-استراتيجي، وأيديولوجي/توراتي، وأمني، وعسكري يرتبط بعمق بنيويا ورمزيا بوجود، وهوية، وبقاء دولة "اسرائيل" باعتبار أن مبرر وجودها هو يهوديتها، ومبرر هذه الهوية اليهودية يتموضع تحديدا في الضفة الغربية، حيث تتحول الادعاءات التوراتية إلى حقائق على الأرض. حولت السياسات الاستعمارية- الاساتيطانية مشفوعة بالقوة العسكرية الضفة الغربية إلى جزء لا ينفصل من دولة "اسرائيل". وقد عملت كل حكوماتها على تعبئة الرأي العام بالقيمة "اليهودية" لهذه المناطق وأهمية فرض "السيادة اليهودية عليها"، فأصبحت وكأنها مسألة وجودية.

امتلاك حرية الفعل

ارتبطت بهذه الاستراتيجية الصهيونية متلازمة أو نمطية تمثل السبب الثاني لاعتقادنا بأن "اسرائيل" ماضية في تنفيذ مخططها. ففي حين منحتها القوة العسكرية، والدوافع الجيو-سياسية والإثنية-الدينية درجو كبيرة من حرية التصرف، فإن هذه الحررية تعززت بفعل عجز، أو عدم رغبة المجتمع الدولي بتحميل اسرائيل مسؤولية فعلية عن سياساتها؛ لم تدفع "اسرائيل" أية أثمان جدية مقابل ممارساتها. وهي نمطية رافقت نشوءها ومسار علاقاتها مع الفلسطينيين والعرب: استولت "اسرئيل" على أكثر من 20% من أراضي "الدولة العربية" التي جاءت في قرار التقسيم رقم 181. منذ ذلك الوقت حددت هذه الدولة "تخومها" (ليس حدودها فالتخوم مفهوم حركي بعكس الثبات النسبي للحدود) استنادا إلى معايير إثنية-قومية دينية، مرفوعة بقوة عسكرية متفوقة. لقد سلم المجتمع الدولي بهذه المتلازمة فأصدر القرار 242 بعد عدوان 1967، ولم يعد أي طرف يجادل أو يطرح مسألة حدود قرار التقسيم، وتحول "الخط الأخضر" (خط الهدنة وفصل القوات) إلى حدود معترف بها عربيا ودوليا، ولاحقا فلسطينيا. استمرت ذات المتلازمة تجاه سياسات "اسرائيل" الاستيطانية في المناطق المحتلة عام 1967، إلى الحد الذي بات معه فرض السيادة الاسرائيلية على معظمها مسألة وقت وليس فيما إذا كان سيحصل أم لا؟

فقد أنشأت دولة الاحتلال مستوطنات هي مراكز حضرية مرتبطة لوجستيا وقانونيا وثقافيا بهذه الدولة، ومعها أقامت البنى التحتية اللازمة لتنفيذ عمليات قطع في اللحم الحي للضفة الغربية، بحيث باتت إعادة تعريف الضفة جيو-سياسيا وقانونيا جاهزة للتنفيذ منذ زمن، بالرغم من سلسلة القرارات الدولية بهذا الخصوص واخرها قرار مجلس الأمن 3234. بطبيعة الحال فإن عجز المنظومة الدولية عن مساءلة "اسرائيل" ومحاسبتها ارتبط على الدوام بوجود قوة/ى دولية عظمى تساندها وتحول دون محاسبتها، بحيث تدرك دولة الاحتلال بأن الاعتراض الدولي لن يتجاوز الاستنكار والقرارات غير الفاعلة، فكيف إذا كانت الخطة الاسرائيلية تحظى بشرعية وقبول وبمبادرة الدولة الأكثر قوة على الساحة الدولية، وهي أمريكا. بالمقابل فإن القوى المؤثرة الأخرى لا تزال تراوح في مربع الإدانة، وأحيانا أقل من الإدانة. فعلى سبيل المثال فإن ألمانيا صاحبة التأثير الأكبر في الاتحاد الأوروبي أعلنت رفضها للخطة باستخدام لغة سائلة من قبيل "ننصح" اسرائيل بعدم القيام بضم أجزاء من الضفة الغربية. الاتحاد الأوروبي وعلى لسان وزير خارجيته جوزيف بوريل أعلن بأنه بصدد دراسة فرض عقوبات على "اسرائيل" في حال أقدمت على هذه الخطوة، لكن من غير المتصور أن يتم ذلك. فوفق الية عمل الاتحاد يحتاج الأمر إلى إجماع من الدول الأعضاء وهو أمر غير متاح إذا ما أخذنا بالاعتبار وجود عدد من هذه الدول التي تجمعها بدولة الاحتلال وحكومتها علاقات حميمة مثل المجر والتشيك وبلغاريا. وكلها حكومات يمينية شوفينية تجد قاعدة تقاربها مع حكومة الليكود تحديدا في يمينيتها وعدائها المشترك لقيم الحرية والتحرر والديمقراطية، والمعايير الكونية لحقوق الإنسان والعدالة.

المنصة السياسية "الاسرائيلية"

لقد نص اتفاق تشكيل الحكومة الجديدة في "اسرائيل"، وهو السبب الثالث لقناعتنا بأن الخطة ستنفذ، على تفاهمات تمنح الخطة غطاءا سياسيا وبرلمانيا شبه حاسم. فخطة "الضم" هو جزء أساسي من الاتفاقية الائتلافية بين حزبي الليكود، وأزرق-أبيض، إن لم نقل بأنها أكثرها أهمية. فبعد أن قلببني غانتس ظهر المجن لشركائه في الحزب، ولمحالفته المؤقتة والمشروطة مع القائمة العربية المشتركة، تبين بما لا يدع مجالا للوهم بأن مشكلة غانتس الأساسية مع نتنياهو هي في السلوك السياسي للأخير وليس في مقارباته ذات الصلة بشكل الحكم (بكل ما أظهره من فساد)، أو بالموضوعع الفلسطيني وصفقة القرن. هذا الائتلاف عبر عن تفاهم أساس غير معلن يقوم على استبعاد أي تأثير للقائمة العربية المشتركة على القرارات السياسية للحكومة، وعلى رأسها تنفيذ كلي أو جزئي لصفقة القرن، وعن الضرورة التي يطرحها تحدي وباء كورونا. في حقيقة الأمر فإن هذا الائتلاف هو أقرب إلى منطق حكومات "الوحدة الوطنية" منه إلى الحكومات الائتلافية التي تشكل النمط السائد للحكومات الاسرائيلية المتعاقبة. فبانحسار الوزن البرلماني لقوى وسط ويسار المتصل السياسي الاسرائيلي، فإن تشكيل حكومة تستند إلى يمين الوسط، واليمين بكل أطيافه (حصلت على تأييد 72 عضو كنيست)، هي حكومة تسعى لاكتساب شرعية داخلية وخارجية تمكنها ليس من مكافحة وباء كورونا، بل من المضي قدما في تنفيذ خطوة كبرى باتجاه تسوية الصراع مع الفلسطينيين من خلال خطة "الضم". شأنها في ذلك شأن حكومات "الوحدة الوطنية" السابقة التي عززت ما يعرف باسم "الإجماع القومي الاسرائيلي" حول الصراع مع الفلسطينيين. فحكومة "الوحدة الوطنية" في العام 1969 سعت إلى تطبيق خطة وزير الخارجيو الأمريكي وليم روجرز قبل أن ينسحب منها حزب جاحال بزعامة مناحيم بيغناحتجاجا على ما وصفه بكارثة احتمال عودة "اسرائيل" إلى حدود حزيران 1967. تبرز في هذا السياق "حكومة الوحدة الوطنية" في العام 1988 بين "العمل" والليكود" والتي تفككت في العام 1990 بحكم رفض اسحق شاميرالتجاوب مع رسالة وزير الخارجية الأمريكية جيمس بيكر حول التمهيد لمؤتمر مدريد. لقد تفككت هذه الحكومة بالرغم من تفاهماتها المعلنة حول الخطوط الحمراء لأية تسوية سياسية مع الفلسطينيين، وأولها رفض العودة إلى حدود حزيران 1967. وتتلازم حكومات الوحدة هذه مع خط تصاعدي لليمين وبخاصة الليكود، بحث باتت مبادئ الليكود بشأن "أرض اسرائيل الكبرى/الكاملة" هي الموجه الأساس لسياسات هذه الحكومات، وقيدتها "بإجماع" لا يمكن التراجع عنه. هذا ينطبق على حكومة الوحدة التي شكلها أريك شارونفي العام 2001 وأدت إلى انقسام حزب العمل، فقد كانت غايتها المركزية هي اكتساب الشرعية اللازمة لسحق الفلسطينيين ومعهم ما ترتب على اتفاقيات أوسلو من تغيرات.

خاتمة

منذ اختلاقها كدولة محكومة بالأيديولوجيا الصهيونية، استندت "اسرائيل" إلى قدرتها على فرض الأمر الواقع بالقوة العسكرية، وساقت مسوغات أمنية ووجودية أخفت خلفها طبيعتها التوسعية المسكونة بالاعتبارات التوراتية و"القومية" الشوفينية. وقد كانت مسألة الاستيلاء على ما تبقى من فلسطين حاضرة على الدوام على جدول تطلعاتها. فتمسكها بالضفة الغربية باعتبارها المشروع-الحلم شكل القضية المركزية الأولى في السياسات الاسرائيلية الداخلة والخارجية. وفي سبيله سعت كل الحكومات الاسرائيلية إلى تغيير الطابع المكاني والجيو-سياسي للمناطق المحتلة عام 1967 وصولا إلى فرض السيادة الاسرائيلية عليهاز حال دون هذا الهدف حتى الأمس القريب عاملان مترابطان: الأول هو أنها لم تمتلك الكتلة البشرية (الاستيطانية) الحاسمة لبلوغه، وقد بلغتها إلى حد كبير بوجود قرابة 800,000 مستوطن في هذه المناطق؛ والثاني هو خليط من قدرة الفلسطينيين على التصدي لهذه الاستراتيجية ووجود توازنات إقليمية ودولية تحول دون مضيها في تطبيقه. في اللحظة الراهنة لا يبدو بأن لدى الفلسطينيين مثل هذه القدرة، بينما تغيرت وبعمق البيئة الدولية، والمحيط الإقليمي لصالح السياسات الاسرائيلية، وبما يجعل خطة "الضم" حقيقة واقعة ووشيكة.