الخميس: 18/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

نزل الذرة الصفراء

نشر بتاريخ: 14/09/2022 ( آخر تحديث: 14/09/2022 الساعة: 13:42 )

الكاتب: مصطفى بشارات

غادرنا مؤخرا الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، وقد تمكن رحمه الله، بفضل سعة اطلاعه، التأكيد على المكانة التي يحتلها الشعر ، بدرجة لا تقل أهمية عن الفلسفة والتاريخ، بل ربما تتفوق عليهما، في كونه مصدرا للمعرفة البشرية وللاجابة على القلق المتأصل عند الانسان وعلى أسئلته الوجودية.

أكثر ما لفتني في غير حوار مع شمس الدين، تعبيره الغامر عن لحظات السعادة التي كان يستشعرها وهو يكتب القصيدة أو حين تقدح في ذهنه شرارة الفكرة التي تشكل بذرة لولادة قصيدة أخرى، لكن ماذا عن المتلقي، هل يقع خارج هذا السياق، هل هو على تخومه، هل يستحوذ المبدع على كامل تلك السعادة أم أن هناك فرصة للمتلقي كي يشاركه التمتع في جزء منها؟

كثيرا ما خطرت بـ "بالي" هذه الأسئلة حينما "أتفرج" على لوحة فنية، أتابع مسلسلا دراميا، أشاهد فيلما سينمائيا، أو أكون إزاء عمل فني أو أدبي يمتاز بطرازه الابداعي العالي بحيث يأخذك إلى عوالم ساحرة من المتعة والدهشة والتفكير والتساؤل العميقين وربما السرمديين اللذين لا يقران إلى قرار.

يحدث أن استكشف مثل هذه العوالم أو ألج إليها أو أستشعر روعتها ولا يعني ذلك، البتة، غياب الحيرة التي قد أقع فيها إزاء المآلات التي يأخذني إليها هذا العمل الفني أو ذاك العمل الأدبي أو الأسئلة التي يطرحانها أو الأفكار التي يعرضان لها أو الأمور المخفية التي يكشفانها، لكن نادرا ما يحصل ذلك، تماما كما هي نادرة تلك الأعمال الفنية أو الأدبية التي تمتاز بحرفيتها العالية وقدرة أصحابها على تقديم ما هو جديد أو الكشف عما هو قديم أو عرض بعض القضايا الاشكالية التي تعرض لنا دون أن نتعرض لها أو نلقي لها بالا!!

واحدة من الأعمال الأدبية المدهشة التي لفتتني في الآونة الأخيرة رواية (نزل الذرة الصفراء) لـ أنس أبو رحمة، وقد صدرت عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان عام 2015، وتقع في 141 صفحة.

كان واضحا لي منذ البداية أن الرواية مخصصة لفئة (اليافعين)، لكن شاعرية اللغة التي كتبت فيها، والعوالم المدهشة من الطبيعة والمفردات والأسئلة والاشكاليات التي عرض لها الكاتب، ألحت عليّ للمزيد من التورط معها وفيها وللكتابة عنها بوصفها رواية تصلح أيضا أن يقرأها الكبار ويستمتعوا بها تماما كما لو أنهم لا يزالون يافعين.

لست في معرض إعطاء مثال من هنا أو هناك من أبواب وفصول الرواية لأدلل على ما ذكرت. قد تلفت إشاراتي انتباه كاتب مهتم أو ناقد مختص لاستكشاف خطإ أو صواب رأيي الانطباعي هذا؛ لكن سأكتفي، هنا، بالكلام العام في الموضوع وسأترك التخصيص لكل من يعنيه الأمر.

أنس أبو رحمة شاعر وكاتب من فلسطين إلا أن ذلك لم يمنعه في العموم من استعمال أسماء أجنبية لا تمت لا لفلسطين ولا للعرب بأية صلة، وهذا ينطبق على استدعائه لطبيعة وبيئة لا تشبه، في التفصيل، الطبيعة والبيئة الفلسطينية والعربية، ولا تستثنى من ذلك سيرورة الحياة الاجتماعية للأسرة الفلسطينية والعربية والمجتمع الفلسطيني والعربي والتراتبية والمحافظة التي تكتنفهما.

كان ذلك لافتا لي على أكثر من صعيد: أولا- كان أسهل على أنس لو استخدم أسماء عربية لأبطال روايته، كذلك الأمر بالنسبة لاستدعاء الطبيعة والبيئة العربيتين، ثانيا- تحمل أنس عبء "إشراك" الحيوانات لتكون حاضرة وأساسية وفاعلة في "المشهدية" التي تعرضها الرواية وقد اختار لبعضها أيضا أسماء أجنبية. وأنت تعيش مع هؤلاء الأبطال، من الذكور والاناث، البشر والحيوانات، الغرباء من حيث الأسماء والبيئة، لا يمكن لك، مع ذلك، أن تستشعر الغربة التي قد يتوهم البعض إمكانية الوقوع فيها وهو إزاء هكذا أوضاع غرائبية – هذا ثالثا، أما رابعا- فقد أجرى الكاتب حوارات وأسئلة بين أبطال روايته، وعرض لحوادث عايشوها لا تمت بصلة للمشهد المعتاد في الرواية العربية وبالنسبة للقارىء العربي، بما في ذلك لعالم القصة العربية الموجهة للأطفال، ومع ذلك بدا الوضع اعتياديا، بل وأكثر من ضروري، كما أثار أسئلة يمكن لها أن تستوقف الصغير كما الكبير . وإذا أردت أن أضيف فهناك (خامسا) ويتعلق هنا بقدرة أنس الكاتب على الغياب تماما عن الرواية، ولربما كان معنا يستكشف فصول وأبواب الرواية، يفكر بقصتها، ويحاول الاجابة على الأسئلة التي تعرض لها، ويخوض المغامرة مع أبطالها!!

في الصحافة يقولون "ليس الخبر أن تقول عض كلب رجلا، لكن الخبر أن تقول عض رجل كلبا"، ربما هذا سر ابداع رواية (نزل الذرة الصفراء) وهي تورد مفردات لم يعتدها الأطفال العرب كمفردة (نزل) على سبيل المثال، وولوجها بيسر إلى طاقات الابداع والحيل الهائلة التي يمتلكها الأطفال، كذلك ما تزخر به الطبيعة من نباتات وأشجار وحيوانات وصخور وأنهار وجبال وتلال، في كل منها فائدة أو لوحة فنية أو قصيدة أو لغز يستأهل الحل أو التوقف عنده، على الأقل، أو قصة حب تستحق أن تعاش، مع التنويه إلى أن كل ذلك تم دون أن يمارس الكاتب دور الوصي أو المرشد الاجتماعي أو يعيد إنتاج اللغة الذكورية بما تعنيه من سلطة أبوية وهيمنة على امتلاك الحقيقة و "الصح" .

في المحصلة، ربما لا يستعجل آخرون الوصول إليها كما فعلت، استطاع أنس أبو رحمة في روايته (نزل الذرة الصفراء) أخذنا بيسر، وسلاسة، ومحبة، كي نتعرف معه، وسوية، على عوالم أخرى غير تلك التي اعتدناها في بيئتنا، وعلى أسئلة جديدة لم تعرض لها (محكياتنا الكبرى) التي دأبت على "اتحافنا" بموروث مكرور في كل قصة ورواية ومسلسل وفيلم ولوحة فنية، موروث معاد مع كل سؤال وفكرة، لكن النتيجة، أقل ما يمكن القول عنها، أنها كانت على الدوام متواضعة؛ لذلك كان الكثيرون، الكبار كما الصغار، ينصرفون حتى عن التفكير في خوض مثل تلك التجارب الكيئبة، وما حصل مع أنس أنه فعل عكس ذلك تماما، خاض تجربة مختلفة، نقلنا إلى عوالم غريبة، كتب بلغة مختلفة، وحتى في كثير من الأحيان شاعرية، لذا كان النجاح حليفا له.

أنا شخصيا استمتعت كثيرا بهذا الكتاب كما لو أنه موجه للكبار، مع ثقة بأنه يصلح لليافعين ومن شأنه الارتقاء بذائقتهم.

هذا رأي انطباعي، أعترف، وهو رأيي الخاص الذي ربما يحتمل الخطأ كما يحتمل رأيكم العكس أو الصواب!