الأربعاء: 22/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

قضية اغتيال الدكتور أنور الشقيري عام 1939 محاولة اخفاء الحقائق بالتلفيق ... وتلويث الوطنية بالعمالة !

نشر بتاريخ: 18/07/2023 ( آخر تحديث: 18/07/2023 الساعة: 22:05 )

الكاتب:

د. رفيق الحسيني

وددتُ في هذا المقال ومقالات لاحقة التركيز على مسألة اغتيال فلسطينيين خلال الثورة الفلسطينية الكبرى في الأعوام 1936-1939، والتي ما زالت تقضّ مضاجع الحركة الوطنية الفلسطينية إلى يومنا هذا ... فالأقلام الصفراء، ومعها عشرات – بل مئات – من الذباب الالكتروني ما زالت توجه لوماً كبيراً للثوار وقيادتهم، مُدعية أن معظم الاغتيالات آنذاك لم تكن مركّزة على "الخونة والعملاء"، بل كان العديد منها عشوائي – شخصي، أو انتقامي، أو عائلي، او حزبي. وبالفعل، فقد نجحت تلك الأقلام الصفراء بإقناع عدد من الفلسطينيين، في الماضي كما في الحاضر، أن أحد الأسباب الرئيسية لفشل الثورة الكبرى هو الاغتيالات العشوائية التي قام بها الثوار، مما شوّه صورة الثورة بشكل كبير وأفقدها جزءاً من أهميتها ورونقها ... وبالفعل استطاع الاعلام المُلفق (الصهيوني والبريطاني والعربي) تضييع الحابل بالنابل، ومن ثم إدعت القيادات المُضادة للثورة أن معظم العملاء والخونة الذين اغتيلوا ليسوا بخونة أو عملاء، وإنما هم أبرياء تم اغتيالهم لأسباب حزبية أو شخصية أو عائلية!

ولكن بعد التمحيص ودراسة الأدلة والبراهين، توصلتُ إلى قناعة هامة سأسردها في هذا المقال (والمقالات التي تليها) وهيأنه من المؤكد أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد الثوار خلال ثورة 1936-1939 (وخلال فترة الانتداب البريطاني بشكل عام) كانوا من العملاء والمتعاونين أو بائعي/سماسرة الأراضي، ولم يتجاوز مجموع هؤلاء عن خمسمائة شخص. ومن المؤكد أيضاً أن البعض من غير المنخرطين في صفوف الثوار استغلّ الفلتان الأمني في فلسطين، فقاموا بتصفية بضع عشرات من منافسيهم من غير العملاء. ومما هو مؤكد أيضاً أنه تم قتل بضععشرات من الفلسطينيين الأبرياء على يد المخابرات الصهيونية أو البريطانية من أجل ايقاع الشقاق وتعميق الخلافات بين الفلسطينيين وبالتالي اضعاف الثورة.

الثورة الفلسطينية الكبرى: قتال بريطانيا والصهاينة من جهة وترويع العملاء والمتعاونين من جهة أخرى

لقد سجّلت سنوات الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) عدد كبير من العمليات الفدائية ضد الجيش (والشرطة) البريطانية من جهة، والمستوطنين الصهاينة من جهة أخرى. وقد وصل عددالعمليات الفدائية العسكرية – بحسب الاحصائيات البريطانية الرسمية - إلى 148 عملية في العام 1936، و592 عملية خلال العام 1937، و4,972 عملية خلال العام 1938، و952 عملية خلال العام 1939.

​وقد تميّزت المرحلة الثانية من الثورة (خريف 1937 إلى صيف1939) باشتداد النقمة الوطنية ضد من لقّبهم الثوار "بالخونة والعملاء". فإلى جانب قتال الجيش البريطاني والميليشيات الصهيونية، كانت هناك العديد من محاولات ترهيب المُتعاونين مع الحركة الصهيونية والسلطات البريطانية، بل قتلهم إن لم ينفع الترهيب ... وبخاصة أولئك الذين باعوا الأراضي، أو عملوا كسماسرة للحركة الصهيونية، أو الذين أنشأوا، بدعم من الجيش البريطاني والميليشيات الصهيونية، ما عُرف آنذاك بـ"فصائل السلام" وكان الهدف منها ضرب مجموعات الثوار أو اخراجهم من معاقلهم، كما كانت كل من تلك المجموعات مُكوّنة من مُرتزقة تدفع الحكومة البريطانية أجورهم سرّاً عن طريق زعمائهم التقليديين، أوالذين تعاونوا مع "فرق الليل" وهي مجموعات "مُستعربة" أسسها الضابط البريطاني "وينغت" (Wingate) من بريطانيين ويهود وعرب كان هدفها قتل عرب و"لصق" التهمة بالثوار، وإيقاع الفرقة والشقاق.

لماذا قضية إغتيال الدكتور أنور الشقيري أولاً؟

وددتُ في مقالي الأول أن أركز على قضية اغتيال إبن عكا الشهيد الدكتور أنور الشقيري في حزيران/يونيه 1939 الذي لم يكن قد تجاوز عامه الثلاثين، حيث قرأت قبل أيام على احدى صفحات الفيس بوك التي تحمل اسم "صور من التغريبة الفلسطينية وفلسطين في الذاكرة" وكذلك في الويكيبيديا أن الدكتور الشقيريكان ضحية إغتيال من قبل الثوار المُنتفضين ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية، وبأوامر من الحاج أمين الحسيني. ورغم اثباتات عديدة ساقها الكثيرون لضحد ما قيل ويقال بخصوص الدكتور الشقيري وعشرات غيره ممن طالتهم يد الغدر (وليس يد الثوار)، فما يزال هناك أشخاص – معروفي أو غير معروفي الهوية - ينشرون على صفحات الفيس بوك والواتس آب والانستغرام والويكيبيديا اشاعات كاذبة ومُغرضة بحق تلك الثورة المجيدة التي استمرت من عام 1936 إلى 1939، ويحاولون تزوير الحقائق وتلفيق الأحداث، تماماً كما حاول الصهاينة – والانكليز من قبلهم - فعله منذ أن أظهروا أطماعهم بتحويل فلسطين إلى دولة يهودية.

اشتداد نقمة الشعب والثوار على حزب الدفاع ومناصريه بعد انسحابه من اللجنة العربية العليا

في كانون الأول/ديسمبر 1937، في عز اشتداد الثورة على بريطانيا والحركة الصهيونية، وبينما كان كافة أعضاء اللجنة العربية العليا، التي رأسها الحاج أمين الحسيني، إما منفيين في جزر السيشل أو مطاردين في دول الجوار أو تحت الاقامة المُقيّدة في لبنان وسوريا، استغلّت القوى المُعارِضة للجنة العربية العليا حادثة إطلاق نار على منزل سليمان طوقان رئيس بلدية نابلس ومن قيادات حزب الدفاع، فأقامت الدنيا ولم تقعدها ... وحرّكت وفوداً من قرى نابلس - وكذلك من القدس ويافا والرملة والخليل وغزة وحتى عمّان، فعقدوا اجتماعاً في حديقة البلدية حضره طوقان وأعيان المدينة، "فضاق بهم المكان على اتساع رحابه" حسب وصف جريدة فلسطين (17/12/1937)، حيث سمحت سلطات الاحتلال حينها لحزب الدفاع بجلب ثلاثة الاف من مؤيدي "المعارضة" من كافة أنحاء البلاد والتجمّهر في نابلس بالرغم من حالة الطوارئ المُعلنة في البلاد.

وأمام الحشد الذي تقدّمه رئيس حزب الدفاع (وزعيم المعارضة)راغب النشاشيبي ومعه عدد من الشخصيات المناهضة للثورة،خطب عيسى العيسى صاحب جريدة فلسطين (وكان من قياداتحزب الدفاع آنذاك) مُستنكراً الاعتداء على طوقان وحامداً الله على سلامته "ليس لأنه من أقطاب حزب الدفاع فحسب، بل لأننا نعتقد بأن سليمان بك هو من الرجال الأفذاذ، ذوي العقيدة الثابتة والإيمان الوطني القومي، الذين لا يتساهلون في حقوق وطنهم مثقال ذرة ... حتى لو اقتضى بأن يضحّي بماله وبدمه". كما أُرسلت العديد من برقيات الاستنكار، فنشرت جريدة فلسطين أسماء مرسليها من كل مدينة وبلدة ومن شخصيات عربية وفلسطينية. ولكن في الحقيقة، كان رئيس بلدية نابلس متساوقاً مع الاحتلال، وكان من أقوى المطالبين بإنسحاب ممثلي حزب الدفاع من اللجنة العربية العليا، ولذلك فاطلاق الرصاص على بيته من قبل مسلحين فلسطينيين شباب في عز الثورة لم يكن بالأمر المُستغرب، ولكن حزب الدفاع أراد تسجيل نقطة ضد الثورة والثوار.

كان حزب الدفاع يمثّل الكمبرادور الفلسطيني، أي الفئة المنتفعة من وجود الاستعمار البريطاني، وقد انسحب الحزب من اللجنة العربية العليا، متذرعاً بأعذار واهية قبل ثلاثة أيام من نشر تقرير لجنة بيل (Peel) التي جاءت للتحقيق في أسباب الاضراب الكبير في نهاية العام 1936، فاقترحت في تقريرها الصادر في 7/7/1937 تقسيم فلسطين بإعطاء اليهود 30% من مساحتها ( معظم السهول والشواطيء بما فيها عكا وحيفا وصفد وبيسانوطبريا) واحتفاظ البريطانيين بـ 10% (القدس وبيت لحم) ومنح الـ 60% المتبقية للعرب (جنين وطولكرم ونابلس والخليل ومعظم الجبال الجرداء حولها وصحراء النقب). كذلك أوصت لجنة بيل بتفكيك المجلس الاسلامي الأعلى وإزاحة الحاج أمين الحسيني عن رئاسته، رغم إنتخابه في المنصب كونه "مصدر قوة للمتطرفين". وكان إنسحاب حزب الدفاع قد جاء بطلب من الحكومة البريطانية حتى لا يظهر أن هناك اجماع فلسطيني ضد تقرير لجنة بيلومشروع التقسيم، حيث مثّلت اللجنة العربية العليا في الفترة نيسان/أبريل 1936 إلى تموز/يوليه 1937 إجماعاً وطنياً تمثّلت فيها جميع الأحزاب الكبرى (الحزب العربي، وحزب الدفاع، وحزب الاستقلال، ومؤتمر الشباب، وحزب الاصلاح، والكتلة الوطنية، وكافة الطوائف المسيحية الكبرى).

ولذلك، ومن أجل اضعاف اللجنة العربية العليا ورئيسها الذي كان يتمتع بتأييد كبير من الشعب الفلسطيني، بل العربي والاسلامي أيضاً، اتهمه خصومه الفلسطينيون، بتحريض من الانكليز، بأنه كان وراء محاولة اغتيال رئيس بلدية نابلس، بل وكافة الاغتيالات الأخرى التي حصلت بعد ذلك، وبخاصة لبعض الشخصيات المعروفة بتأييدها للمعارضة.

تحت عنوان "أسعد الشقيري"، تقول الويكيبيديا أن الشيخ أسعد، والد الدكتور أنور وكذلك والد أحمد الشقيري رئيس منطمة التحرير الفلسطينية (1964-1969) ظل "على مواقفه من المجلس الاسلامي والحاج أمين الحسيني حتى آخر أيامه قطباً من أقطاب المعارضة في شمال فلسطين، وفي أيام الثورة التي نشبت سنة 1936، اغتيل ابنه الدكتور أنور وكان هذا الاغتيال إحدى نتائج الخصومات السياسية العشائرية بين المجلسيين والمعارضة التي استغلها الإنجليز والصهاينة لإنهاك الحركة الوطنية وشلّها عمليا".

وفي كتابه "قصة حياتي في فلسطين والكويت"، كتب الاستاذ خير الدين أبو الجبين تحت عنوان "الاغتيالات السياسية":

" كنت أسمع في صباي أن رجال المفتي كانوا يلجؤون إلى الاغتيالات لإسكات خصومهم في المعارضة ... وسمعت آنذاك أنه تم اغتيال المفكّر الفلسطيني حسن صدقي الدجاني في القدس لأنه من المعارضين، وكذلك فخري النشاشيبي والذي اغتيل في بغداد عام 1941... كما سمعتُ أن أنور الشقيري اغتيل في عكا، واغتيل الزعيم العمالي سامي طه في حيفا ... واغتيل كثيرون غيرهم. وقال البعض أن العديد ممن تم اغتيالهم قد اغتيلوا ظلماً أو بطريق الخطأ أو للانتقام أو لتصفية حسابات شخصية قديمة".

وبالفعل، فإن ما سمعه الاستاذ أبو الجبين في صباه كان ما أشيع آنذاك – وما يزال – عن اغتيالات سياسية ظالمة. ويمكن أن تكون بعض تلك الاغتيالات ظالمة لا شك، ولكن ما زال هناك شك بخصوص من قام بمعظمها إلى يومنا هذا.

وعن اغتيال أخيه (غير الشقيق) وموقفه من الحاج أمين، والذي عبّر في أكثر من مناسبة في مذكراته وفي مناسبات أخرىعن "عدم محبته" للحاج أمين الحسيني لأسباب لا سبب واضح لها سوى أنها إما شخصية بحتة أو بسبب خلاف المفتي مع جمال عبد الناصر إثر انفصال سوريا عن الوحدة مع مصر في العام 1958،كتب أحمد الشقيري في مذكراته المنشورة عام 1969 بعد سنتين من تنحّيه عن رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية يقول:

"وكان اهـل القتلى، ويعـدون بالمئات، يتسـاءلون عـن دور الحـاج امـين فـي هـذه المآسـي، بعضـهم يدينـه وبعضـهم يبـرؤه، ولكـن الجميـع يتسـاءلون لـم لا يسـتنكر؟ لـم لا يرسل برقية تعزية لأهل الفقيد؟ واظـن ان الحـاج امـين لـم يُعـزّ احـدا سـواي... فقـد جـاءني الـى بيتـي [في بيروت] يـوم غـدرالغـادرون فـي اخـي أنـور وكـان طبيـب الثـورة، وعقلهـا وقلبهـا، فـي شـمال الـبلاد، فـدعاه "أحدهم" لمعالجة أحد الجرحى، وفي طريقة لأداء هذا الواجب القومي، أطلق عليه النـار فأرداه قتيلاً فبكاه الشعب، وكان والده الشيخ ذروة في الصبر وآية في الايمان. وقلت للحاج امين وهو يعزّينـي، ان أخـي قـد ذهـب شـهيداً، ولكنـي اخشـى علـى الثـورة ان تصـبح شـهيدة وينتهـي أجلها، وكـان فـي بيتـي احـد سـفراء الـدول الصـديقة فقـال الحاج امين عبارة خالدة: "أن العرب واليهود والانجليز قد اختلفوا في كـل شـيء، الا فـي أمـر واحـد قـد اتفقـوا عليـه وهـو قتـل العربـي، فالإنجليز يقتلـون العربـي، واليهـود يقتلـون العربي، والعربي يقتل العربي ... وكانت هذه الكلمة ختام الجلسة وانصـرف الحـاج امـين دون ان يتفوه بكلمة واحدة".

وبينما حاول الشقيري تفسير قول المفتي بأنه اعتراف بأن الثوار العرب قتلوا أخيه، إلا أنني أعتقد أنه المفتي كان يقصد "فصائل السلام" التي أدارها فخري النشاشيبي، فهؤلاء هم العرب الذي قتلوا العرب برأي المفتي. وهنا لابد من التوقف قليلاً للسؤال: هل حاولت قيادة الثورة السيطرة على عمليات الاغتيال غير المُبررةالتي بدأت تزداد بعد منتصف العام 1938؟

والجواب أنه في منتصف العام 1938، قام بعض الوجهاء في القرى بالشكوى للحاج أمين الحسيني – الذي كان مقيماً في لبنان - من الاغتيالات غير المُبررة والتي بدأت تزيد عن حدّها. فقامت اللجنة العربية العليا بنشر اعلانات تدين أي تعامل سيء من قبل الثوار مع الفلسطينيين العرب. كما قامت القيادة المركزية للثورة بإرسال أمر لقادة الفصائل بمنع اعدام الخونة بدون مُصادقة مُسبقة. وقد تبنّى هذا الموقف المانع للإعدام القائد عبد الرحيم الحاج محمد، وكان القائد العام للثوار آنذاك، والذي قُتل بعد معركة مع الجيش البريطاني في قرية صانور في محافظة جنين في آذار/مارس 1939 بعد أن وشى عليه أحد قادة "فصائل السلام" في المنطقة. وكان القائد الحاج محمد قد أرسل، في منتصف 1938،مجموعة من التعليمات لقادة الفصائل التابعة له، منها تعليماته الخطية التي جاء فيها: "أنكم لا تملكون الصلاحية للحكم على رجل بالإعدام، بغض النظر عن حجم الأدلة الدامغة." ولكن للأسف لم تُتبع تلك التعليمات بشكل كامل من قبل كافة قادة الفصائلوبخاصة بعد مقتل الحاج محمد، كما استمرت "فرق الليل" المُكوّنة من "مُستعربين" قتل أبرياء وإتهام الثوار وذلك لتعميق الخلافات في المجتمع الفلسطيني وزيادة الكراهية للثوار.

كان الشيخ أسعد الشقيري والد الدكتور أنور الشقيري الذي غُدر به في حزيران/يونيه 1939، من المتساوقين مع الاحتلال البريطاني في بداية الانتداب، ومن القيادات المعارضة بشدة لتولي الحاج أمين الحسيني رئاسة المجلس الاسلامي الأعلى في العشرينيات من القرن الماضي، ومن كبار أركان حزب الدفاع والمعارضة حتى منتصف الثلاثينيات. بل ساعد الشيخ الشقيري فخري النشاشيبي في عقد مؤتمر بديل عن المؤتمر الاسلامي الكبير الذي انعقد في القدس في نهاية العام 1931، غير أن المؤتمر البديل الذي انعقد في نفس التوقيت وفي القدس أيضاً، وبدعم مالي من جهات غير معلومة، فشل فشلاً ذريعاً في التخريب على المؤتمر الأصلي أو حتى إضعافه ... ولهذه الأسباب، لم تكن العلاقة بين مفتي القدس والشيخ أسعد الشقيري جيدة على الاطلاق. إلا أنه ومنذ صدور تقرير اللجنة الملكية (اللورد بيل) المنشور في بداية شهر تموز/يوليه عام 1937، والذي دعا لتقسيم فلسطين ومنح مدينتي عكا وحيفا ووباقي الشمال الفلسطيني للدولة اليهوديةأخير أصبح الشيخ الشقيري من أشد رافضي التقسيم. بل انفصل الأخير عن حزب الدفاع في منتصف العام 1937 بسبب موقف الحزب المُتذبذب من مشروع التقسيم، ومنذ ذلك الحين ما عاد يلعب دوراً كبيراً في السياسة الداخلية. ولذلك لم يعد الخلاف بينه وبين المفتي مُحتدماً كما كان.

موقف د. أنور من الأطباء اليهود

أما إبن الشيخ أسعد، الدكتور أنور الشقيري، فكان معروفاً بوطنيته وعدم اتفاقه في الرأي مع والده، كما كان أخاه غير الشقيق أحمد. وكان د. أنور، وهو خريج كلية الطب في الجامعة الأمريكية، قد كتب بضعة مقالات في الصحف الفلسطينية تتعلق بتخصصه كطبيب،أهمها وأجرأها ما كتبه في جريدة الدفاع في 15/3/1936 (أي قبل بدء الاضراب الكبير بشهر) ضد الأطباء اليهود الذي يقصدهم العرب للعلاج قائلاً:

"وبينما يتقرب الدخيل [أي الطبيب اليهودي] من المريض ويتظاهر بالشعور الانساني ويتكلف الخدمة والاخلاص في التطبيب ويتنزع ثقة عمياء من السُذّج، يتقهقر [الطبيب] العربي في معركة الجذب، ولا يلبث أن يُغلب على أمره في النهاية، وربما فكّر أخيراً في تعاطي مهنة جديدة يسهل تعاطيها على من فشلت مشاريعه فيصبح سمسارا ثرياً وزعيما أيضا... "طبيب ألماني متخرج من جامعات أوروبا متخصص في الأمراض الداخلية أو بأمراض الأطفال أو بالجراحة يُعالج بأحدث الطرق حتى بالكهرباء وصاحب اختبار واسع". هكذا يقول الطبيب اليهودي عن نفسه. وتفسير هذا عند الشعب أن الأطباء العرب متأخرون في علمهم، لا اختصاص عندهم ولا يمكنهم أن ينجحوا في تطبيبهم كنجاح الأطباء اليهود الأوروبيين. وحقيقة الواقع أيها الشعب، وما أثبتته التجارب والاختبار أيها الوطنيون، أن الكثيرين من الأطباء الأجانب لا يزيدون بشيء عن الأطباء الوطنيين. فالعطف والاخلاص عند الطبيب العربي يقابلهما الدعاية وترويج الأدوية اليهودية من جانب الغرباء. هذا خادم الشعب يشعر بألم المصاب وواقف كل الوقوف على الحالة الصحية والبيئية، وذاك دخيل يحوّل المهنة إلى الشكل التجاري النفعي ... قبل موجة الأطباء اليهود الأخيرة، يتحدث الشعب عن لطف الطبيب العربي وعنايته، وكانت العائلة تولي ثقتها أحد الأطباء فيخلص في خدمتها والسهر على صحة الأفراد. لكن مع الأسف بعد حركة التطهير على يد هتلر لم تبق تلك الثقة من الشعب في طبيب [عربي] واحد. ظهرت المنافسة بشكلها التجاري وأخذ الدخلاء يتكالبون في طلب العيش. وإذا ما ساق العذر المريض العربي إلى أحدهم، حوّله هذا الاختصاصي [اليهودي] إلى آخر وآخر. وأخذ كل من "الزملاء" يلعب دوراً تجارياً. وبعد أن يتيقن المريض العربي من مقدرة الطبيب الوطني وسعة اختباره يعود إليه وهو لا يملك شيئاً. وأعجبُ لأطباء أوروبيين أقل ما يقال عنهم في فلسطين أنهم يعتنقون الصهيونية مبدأ وعملاً يتقدمون من المريض العربي لمداواته! بل وأعجبُ لعرب في فلسطين يهددهم اليهود بالجلاء عن وطنهم ويخطفون اللقمة من افواههم، ثم هم يتعاملون معهم حتى في أخطر المعاملات وهي المشورة الصحية!

وأكمل د. أنور الشقيري مقاله بالقول:

"أنا كطبيب عربي يجب أن أؤمن حق الايمان أن لا علاقة تربطني بأي طبيب يهودي، وأن مصلحة الوطن وعربيتي ترغمانني على ألا أعترف بالزمالة مع أطباء اليهود، وليكن هذا مبدأنا جميعاً. ومن هذا المبدأ والعقيدة أدعو الزملاء العرب لعقد هيئة تمهيدية صلاحيتها الدعوة لمؤتمر عام للأطباء العرب بدوره يتولى التنظيم، وتحسين الحالة الصحية في البلاد لرفع مستوى مهنة الطبابة ".

من خلال تلك الكلمات التي صاغها الدكتور أنور الشقيري قبل اغتياله بثلاث سنوات، نستطيع الاستنتاج أنه كان طبيباً وطنياً بإمتياز وأنه كان يرفض التعامل مع الأطباء اليهود... وبعد اندلاع الاضراب والثورة في فلسطين في نيسان/ أبريل 1936، أصبح د. أنور مشهوراً أكثر كونه كان يعالج الثوار الجرحى سرّاً ولكن بدون تردد. فما هي مصلحة الحاج أمين أو الثوار باغتياله؟

رواية ملفّقة للاعلام الصهيوني بخصوص إغتيال د. الشقيري

فور اغتيال د. أنور، وكان لم يتجاوز الثلاثين بعد، بدأت صحيفتا"دافار" و"البالاستاين بوست" اليهوديتين بترويج إشاعة صدّقها الكثير من العرب، إذ كتبتا بأن الشقيري قُتل بسبب صداقته لليهود وبأنه "لما أنزلت رفاته إلى القبر، هتفت شقيقته بصوت خنقته العبرات "ليسقط المفتي ورجاله! ولتحيا المعارضة! فردد الجمهور نداءها بحرقة وحماسة". أما صحيفة معاريف الصادرة بعد مرور أكثر من عشر سنوات (في 21/10/1949)، فعادت إلى الحديث عن إغتيال الدكتور أنور من قبل جماعة الحاج أمين، مُضيفة أن لأحمد الشقيري يد في قتل أخيه، بالتعاون مع المفتي.

أما جريدة "فلسطين" التي ابتعدت عن المعارضة في تلك الفترة وخاصة بعد استقالة عيسى العيسى من حزب الدفاع إثر انسحاب الحزب من اللجنة العربية العليا ومواقف مخزية اتخذها سكرتيرالحزب فخري النشاشيبي والتي وصفته الجريدة "بالشيطان الرجيم"، فلم تعلّق في حينه على حادثة اغتيال د. أنور، عدا ما ورد في البلاغات الرسمية. بل أن يوسف حنا، رئيس تحرير "فلسطين"، كتب مُعلقاً على ما جاء في "دافار" و"البالاستاين بوست"، رافضاً تحميل الحاج أمين الحسيني مسؤولية اغتيال ابن الشيخ أسعد، بأنه "تبلغ الجرأة بالصحف اليهودية إلى حد اتهام جريدة فلسطين بالسكوت ... عن ذكر الفقيد العزيز [د. أنور] بحكم أنها الجريدة التي تنطق باسم سماحته [أي الحاج أمين]. ويكمل حنا مُضيفاً:

"وإن صح أننا نتشرّف بالنطق باسم سماحته، فأي صلة بين هذا وبين فجيعة الشيخ [أسعد الشقيري] بابنه؟ ... أم أن الصحف اليهودية تريد منا ضرب الأمة بعضها ببعض، وتوزيع الاتهام بحساب وبغير حساب؟ ... ولو اعتصمنا كلنا بالله وعففنا في المظنّات ... لمشت القلوب بعضها إلى بعض، وتوحّدت في الله وفي سبيله".

دليل حاسم

ولكن الدليل الحاسم بخصوص من إغتال الدكتور أنور الشقيري جاء في العام 1978، أي بعد أربعة أعوام من وفاة الحاج أمين الحسيني، في مقال للقيادي المعروف شفيق الحوت، وكان آنذاك ممثلاً لمنظمة التحرير في لبنان، عن حادث اغتيال الدكتور أنور الشقيري كأحد الأمثلة عن الاغتيالات التي حصلت في تلك الفترة فلسطين.

يقول المرحوم شفيق الحوت:

"كثًرت التقارير والوشايات التي لم يخلُ بعضها من المبالغات والتجنّي، مما أدى إلى خلط العدل بالظلم والقضية الوطنية بالقضايا الشخصية، لأن القرار بالإعدام كان يقع على عاتق قادة المناطق دون الحاجة للرجوع إلى القيادة السياسية، أي قيادة المفتي آنذاك، ومع أن قيادة المفتي أو المفتي بالذات لم يعلن أبداً عن تبنّيه لأي إعدام أو اغتيال سياسي إلا أنه من الواضح أنه - بصمته على الأقل – كان موافقاً على ذلك بقصد تثبيت هيبته وإرهاب معارضيه، إضافة إلى ضبط الناحية الوطنية...

"وكان من الطبيعي أن يستغل الصهاينة وسلطات الانتداب هذه الأوضاع للإساءة إلى سمعة القيادة الفلسطينية وليس هذا المهم. وإنما ما هو أهم من ذلك أن الصهاينة والانكليز بدأوا يمارسون عمليات الاغتيال للتخلص من بعض المواطنين الشرفاء وإلصاق التهمة بجماعة المفتي تصعيداً للصراع الداخلي والانقسامات المحلية. ومن أبشع الأمثلة على هذا، ما حدث للدكتور أنور الشقيري في مدينة عكا. وكان من الأطباء الشبان الذين اشتهروا بوطنيتهم وانسانيتهم وتفانيهم في خدمة الثورة وجرحاها. وبقيت تهمة اغتيال الشقيري مُلتصقة بالمفتي وجماعته قرابة خمسة وعشرين سنة إلى أن كشف الغطاء عنها أحد رجال البوليس الفلسطيني في اعتراف شامل قدمه للهيئة العربية العليا في القاهرة. يقول بطرس عبيد، والذي كان يعمل رئيساً بقلم البوليس في عكا سنة 1939، أنه شاهد ليلة الحادث ضابط البوليس الانكليزي واسمه "فورد" برفقة ضابط عربي عميل اسمه يوسف أحمد يدخلان دائرة البوليس بالملابس القُروية، وعرفهما في الحال واستنتج أن هناك مهمة خطيرة تنتظرهما، وفي تلك الليلة اغتيل أنور الشقيري وهو في طريقه لإسعاف بعض المجاهدين الجرحى، وقد عثر البوليس في مكان الحادث على المسدس الذي استعمل في الجريمة، وتبّين من نوعه ورقمه أنه من مسدسات البوليس الرسمية وفي عهدة الضابط يوسف أحمد بالذات الذي ادعى فيما بعد أنه فُقد قبل أيام من الجريمة. ويضيف بطرس عبيد…"وبعد أن تقدمت بشهادتي إلى المحققين عن المسدس، بعد أسبوع من مقتل [د. أنور] الشقيري، أطلقت علي النار من الضابط يوسف أحمد. لقد عرفته رغم اختفائه بزي قروي، ووقعت على الأرض مُدّعياً الموت مما جعله يتركني ويفر هارباً. وبعد خروجي من المستشفى طُلبت إلى محكمة الجنايات كشاهد في قضية الدكتور الشقيري، ولكن المحكمة حكمت على الضابط المذكور بسبب محاولة اغتيالي أنا … وتلفلف الموضوع".

ويضيف شفيق الحوت قائلاً:

"من هذه الحادثة نرى بوضوح كيف كانت سلطة الانتداب والحركة الصهيونية تستفيد من الاغتيالات السياسية لتعزيز الانقسامات الحزبية وتفتيت قوى الثورة. وفي ملفات القيادات الفلسطينية المتعددة الكثير من الوثائق التي تشهد على ما كانوا يعانون منه بسبب هذه الاغتيالات التي كانت تنسب إليهم زوراً وبهتاناً دون أن يستطيعوا ردها أو التنصل منها. وقد أدى ذلك في النهاية إلى انحسار المد الثوري خصوصاً بعد ظهور عدد من الجمعيات السرية الصغيرة التي ما كانت تعلن عن هويتها بالمرّة، وأعطت نفسها الحق في تصفيات من تصنفهم "خونة أو سماسرة"..."

والآن، وبعد التفنيد الموضوعي والشامل للمحاولات (المستمرة) إلصاق تهمة اغتيال الطبيب المناضل أنور الشقيري بالثوار، ومثلها تهم عديدة، أما حان الوقت أن نتمحص أكثر في الافتراءات والاشاعات التي تفنن أعداؤنا باطلاقها، ونراجع تاريخ ثوراتنا بتجرد وعلمية، لنصل إلى الحقيقة المُرّة ... وهي أن هناك محاولات مستمرة اليوم وكل يوم لتشويه ثوراتنا وانتفاضاتنا التي ضحى خلالها شعبنا بالغالي والنفيس بداية من العام 1920 وحتى اليوم، وأن أولئك الذين ما زالوا يكررون الروايات المزوّرة أو المشوّهة عن ثوراتنا وثوارنا مثلهم مثل كل المُشوهين الذين "ألّفوا ولفّقوا" الأكاذيب من أجل إضعاف جبهتنا الداخلية وتفتيت وحدتنا وتفريق صفوفنا منذ اليوم الأول ... هؤلاء هم أعداء الثورة المُتسترون وراء أقنعة الروايات المُلفقة والاشاعات المُغرضة، وهم الأساس إما صهاينة مُستعربون أو عملاء مُرتشون!