السبت: 27/07/2024 بتوقيت القدس الشريف

استيطان ينابيع مياه الضفة

نشر بتاريخ: 11/06/2024 ( آخر تحديث: 11/06/2024 الساعة: 11:27 )

الكاتب:

فراس طنينة

في ظل حرب الإبادة، التي تشنها حكومة الاحتلال بدعم غربي على قطاع غزة، يحث المستوطنون الخطى للسيطرة على مياه الينابيع في الضفة الغربية، في سبيل التمدد الاستيطاني من جهة، ومنع الفلسطينيين من الشرب، في سياسة تعطيش ممنهجة تهدف إلى ترحيلهم.

ولا أدل من الحرب التي تشنها حكومة الاحتلال على مصادر المياه في الضفة الغربية، والسيطرة على ينابيع المياه المنتشرة في الضفة الغربية، على ما قام به المستوطنون، حين أعدموا الشاب محمد فواقة (21 عاماً)، في قرية دورا القرع شمال مدينة رام الله، في الثامن من أكتوبر، حين هاجم المستوطنون مجموعة من الشبان كانوا يتنزهون عند منطقة "العيون" في القرية، وأطلقوا النار نحو المتواجدين، فأصيب بجراح، وترك ينزف حتى ارتقى شهيداً، حيث منع المستوطنون وقوات الاحتلال مركبة الإسعاف من تقديم الإسعاف له، وترك ينزف حتى ارتقى شهيداً.

عملية الإعدام هذه تؤكد كم هي محفوفة بالمخاطر محاولة وصول المواطن الفلسطيني إلى ينابيع المياه، خاصة بعد أن سلح وزير الأمن القومي المستوطن المتطرف ايتمار بن غفير عشرات آلاف المستوطنين، وأنشأ ميليشيا مسلحة، قتلت هذه الميليشيا 21 مواطناً فلسطينياً، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية، خلال هجمات نفذها المستوطنون على القرى والبلدات والمزارعين، وحتى على جنازات الشهداء، فباتت هذا الميليشيا قوة عسكرية تهاجم الفلسطينيين وممتلكاتهم.

في هذا الصدد، يقول مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية أمير داوود: تبدو الحرب على المياه والينابيع جلية في تجمع عين سامية القائم على أراضي بلدة كفر مالك شمال شرق رام الله، عملت قوات الاحتلال وعصابات المستوطنين على إخلاء الفلسطينيين من التجمع البدوي الغني بمياه الينابيع، عبر فرض الظروف القسرية الطاردة التي لم تترك أمامهم سوى الرحيل عن المكان الذي مكثوا فيه منذ 40 سنة، حيث يقع التجمع على السفوح الشرقية للضفة الغربية المطلة على غور الأردن، ويعتبر واحداً من 250 تجمعاً بدوياً تخطط السلطات الإسرائيلية إلى طردهم للسيطرة على مصادر المياه، وللتوسع الاستيطاني.

ويضيف داوود: تتمتع منطقة عين سامية بوجود ست آبار مياه تزود محافظة رام الله والبيرة بمياه الشرب منذ ستينيات القرن الماضي، وتسعى حكومة الاحتلال إلى السيطرة على هذه المنطقة، لغزارة مياهها، ولإفراغ السفوح الشرقية للضفة الغربية، لتنفيذ مخطط E1 الاستيطاني.

من ناحيته، يقول رئيس سلطة المياه الفلسطينية، م. مازن غنيم، إن دولة الاحتلال تسيطر على نحو 88% من مصادر المياه الفلسطينية في الضفة الغربية، وتمنع الفلسطينيين من الوصول إلى مصادر المياه، وتسمح للمستوطنين غير الشرعيين بالوصول الحر دون عوائق لمصادر المياه، والانتفاع بها سواء لأغراض الشرب والاستخدامات المنزلية، أم لأغراض المشاريع الزراعية والصناعية في المستوطنات.

وأظهرت دراسات دولية وإسرائيلية أن المستوطن في الضفة الغربية يستهلك من المياه 9.5 ضعف ما يستهلكه المواطن الفلسطيني من المياه، حيث تقول سلطة المياه الفلسطينية إن المتاح للفلسطينيين من المياه في الضفة الغربية يبلغ 105 ملايين متر مكعب، وهو أقل مما كان متاحاً في العام 1995 في اتفاقيه أوسلو البالغ 118 مليون متر مكعب، أما كمية الاحتياج وفقا للمعايير الدولية، فتبلغ 400 مليون متر مكعب، أي أن الفلسطينيين يحصلون على ربع ما يحتاجونه.

الواضح أن الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية بما فيها القدس، قطع شوطاً بعيداً في بناء نظام فصل وتمييز عنصري، حيث تتبع الإدارة المدنية الإسرائيلية (وهو أحد أذرع جيش الاحتلال ويعمل به ضباط، ويديره الوزير الإسرائيلي والمستوطن المتطرف بتسيئيل سموتريتش) نهجاً يقوم على استغلال الحرب على غزة، لتعزيز الاستيطان، حيث وضع سموتريتش مخططاً للسيطرة على ينابيع المياه في الضفة الغربية كأداة من أدوات سيطرة المستوطنين على مساحات أوسع من الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى مجال حيوي للنشاطات الاستيطانية.

ويؤكد م. غنيم أن دولة الاحتلال تسيطر على المياه الجوفية والسطحية الفلسطينية، وتسطو عليها وتبيع منها ما تراه ضرورياً للجانب الفلسطيني عبر شركة المياه الاسرائيلية "ميكوروت" وتترك للمستوطنين حرية التصرف في السطو على مياه الينابيع وتحديدا في المنطقة المصنفة (ج) وفق الاتفاقيات بين الطرفين (الفلسطيني والاسرائيلي)، والتي تقدر بنحو 61% من مساحة أراضي الضفة الغربية.

ووفقاً لجمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين، يقدر عدد لينابيع في الضفة الغربية 714 ينبوعاً، منها نحو 350 دائمة بين ضعيف ومتوسط وغزير، حيث يقع 56 من هذه الينابيع بالقرب من المستوطنات في الضفة الغربية، حيث تقع حوالي نصف هذه الينابيع في محافظة رام الله، بعدد 29 ينبوعاً، تليها محافظة نابلس بـ 10 ينابيع، فيما يتوزع الباقي بين بقية محافظات الضفة وخاصة سلفيت وبيت لحم.

ويضيف تقرير جمعية الهيدرولوجيين: كانت 30 من تلك الينابيع أصلاً تحت سيطرة كاملة للمستوطنين، دون إمكانية وصول الفلسطينيين إليها قبل الحرب، أما الباقي فقد تحول عدد منه وخاصة في ظروف الحرب الوحشية، التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، كما على الضفة الغربية الى مناطق عسكرية يمُنع الفلسطينيون من الوصول إليها أو الاقتراب منها بأوامر عسكرية من جيش الاحتلال، وعبر أعمال الترهيب والتهديد والعنف، التي يرتكبها المستوطنون كذلك.

وتدعي سلطات الاحتلال أنها تتعامل مع الينابيع باعتبارها مواقع بيئية يجب الحفاظ عليها وحمايتها، تقول جمعية الهيدرولوجيين، غير أنها في حقيقة الأمر تعمل على حرمان الفلسطينيين من الانتفاع بها كمواقع بيئية أو كمصدر من مصادر الماء اللازم للشرب والزراعة، وتشجع في الوقت نفسه على تأسيس تجمعات استيطانية قريبة، ومجاورة تحولها إلى مواقع لإعادة بناء علاقة المستوطنين بالطبيعة من خلال مسارات ومواقع للتنزه والاستجمام و"التطهر اليهودي"، فضلاً عن استخدامها كمناطق جذب سياحي خطوة على طريق استيطانها بنقل السكان اليهود من الداخل الاسرائيلي إلى مناطق الضفة الغربية، وهذه عملياً هي نفس السياسة التي اعتمدتها دولة الاحتلال في مناطق الجليل والساحل والنقب.

ويوضح تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية (اوتشا) أن هذه الينابيع تقع بالقرب من المستوطنات الإسرائيلية، وأن 30 نبعاً تم الاستيلاء عليه بالكامل ومنع الفلسطينيين من دخولها، بينما تظل الينابيع الباقية وعددها 26 عرضة لخطر استيلاء المستوطنين عليها، نتيجة ما يقومون به من جولات منتظمة وأعمال الدورية.

وبحسب التقرير يبدأ المستوطنون في أعقاب تقليص الوجود الفلسطيني أو القضاء عليه في تطوير الينابيع إلى مناطق جذب سياحي لتدعيم البنية التحتية السياحية للمستوطنات بقصد ترسيخها، حيث يبدأ المستوطنون بتحويل مناطق الينابيع إلى مناطق سياحية، من خلال بناء البرك ومناطق التنزه وتغيير الأسماء ووضع لافتات لأسماء الينابيع بالعبرية، تلك الينابيع التي بقيت أكبر مصدر مائي للري ومصدراً مهما للاستهلاك المنزلي للفلسطينيين.

وتؤكد منظمة "كيرم نفوت" المعنية بدراسة سياسة الأراضي الإسرائيلية في الضفة الغربية أنه "يوجد في وسط الضفة الغربية أكثر من 60 ينبوعاً يطمع المستوطنون بها، من خلال أعمال الترميم والتجديد لنحو نصفها، ونزع الملكية عن أصحابها ومنع الفلسطينيين من الاقتراب منها، على أن الاستيلاء على الينابيع هو جزء من خطة طموحها أكبر بكثير، تسعى إلى السيطرة على المساحات المفتوحة المتبقية في الضفة الغربية، بهدف عزل القرى الفلسطينية، بدلاً من عزل المستوطنات، والاستيلاء على مزيد من الأراضي.

ويجرى تنفيذ ذلك، وفقاً للمنظمة، عن طريق إنشاء مناطق للاستحمام ومسارات للمشي لمسافات طويلة، وإنشاء القبور للشخصيات الروحية اليهودية على أنها "مواقع مقدسة"، وتطوير مواقع للنزهات، وكلها تقع في أراض خاصة مملوكة للفلسطينيين.

ويقول م. غنيم: لا يكتفي المستوطنون بين الحين والآخر بقطع وتدمير خطوط إمداد المياه التي تزود القرى بالمياه من شركة "ميكروت" الإسرائيلية، بل يمنعونهم من تعبئة المياه من ينابيع قراهم، كما هو حال المستوطنين في مستوطنات "عيلي، شيلو وشيفوت راحيل" مع ينابيع المياه المحيطة بقرية قريوت في محافظة نابلس، فبعد أن سيطر المستوطنون على "عين قريوت" و"الخوانق"، وسدوا الطرق بسواتر ترابية إلى الينابيع الأخرى، لم يتبق لأهل القرية المعروفة بكثرة ينابيعها، سوى شراء المياه بثمن باهظ لسد حاجتهم من مياه الشرب وري مزروعاتهم، وخلال الحرب على غزة، استولى المستوطنون على واحد من أهم ثلاث عيون مياه من أصل خمس تملكها قريوت، ومنعوا سكانها البالغ عددهم 3 آلاف نسمة من الاقتراب منها، بعد أن ضمتها لمنطقة نفوذ المستوطنات، التي تسيطر على 17 ألف من أصل 21 ألف دونم من أراضي القرية.

ويقول الناشط في لجان مقاومة الاستيطان في بلدة قريوت جنوب مدينة نابلس، بشار القريوتي: منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر الماضي، لم يبارح المستوطنون منطقة "عين سيلون"، حيث أجروا تغييرات واسعة في المنطقة، بوضع مظلات ومقاعد وألعاب أطفال، وإضفاء صفة سياحية عليها، وتناوبوا في حراسة المكان، لمنع الفلسطينيين من الاقتراب تحت تهديد السلاح، بعد أن دمروا حديقة أطفال أقامتها القرية في المكان ودمروا سطح حزان مياه ذلك النبع، الذي كان يغطي حاجة القرية من مياه الشرب والاستخدامات المنزلية والزراعة في سنوات سابقة، وحولوا ذلك الخزان الى بركة سباحة للمستوطنين.

وتسعى سلطات الاحتلال إلى وضع يدها على ينابيع المياه أهمها نبع "العين الكبيرة" في قرى سالم وبيت جن ودير الحطب وعزموط الى الشرق من مدينة نابلس، حيث تدعي مستوطنة "الون موريه" المقامة على أراضي هذه القرى أن هذه الينابيع تقع ضمن منطقة نفوذها على أراضي دولة، صنفها قائد قوات الاحتلال في الضفة الغربية استناداً لأمر عسكري أصدره كنموذج لهذا الصراع على المياه ومصادرها في الضفة الغربية، ما ترتب عليه معاناة كبيرة بحرمان المواطنين من ينابيع ارتادوها لأجيال.

اعتداءات المستوطنين وأطماعهم في السيطرة على ينابيع المياه هي عمل منظم يتكامل مع سطو سلطات الاحتلال على المياه الفلسطينية بشكل عام الجوفية منها والسطحية، وهو ما يجري في برك سليمان الثلاث في بلدة أرطاس جنوب مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، التي تزيد مساحتها على 30 دونماً، وتحيط بها مساحة مماثلة من المحميات الطبيعية، حيث يقدم المستوطنون على اقتحام البرك بحماية قوات الاحتلال، ويتخوف الفلسطينيون من السيطرة على البرك، حيث تمنع سلطات الاحتلال ترميمها وتطويرها، بسبب تمدد مستوطنة "أفرات" القريبة من البرك، والمقامة على أراضي عدة قرى غرب بيت لحم.

ولا يختلف الحال في بلدة حوسان، غرب مدينة بيت لحم، حيث تسعى سلطات الاحتلال إلى السيطرة على نبع مياه "عين الهوية"، التي تزود عشرات المزارعين بالمياه لري المزروعات، بعد أن سيطر المستوطنون على نحو 4 آلاف دونم من أراضي البلدة، لبناء مستوطنة "بيتار عليت" في تجمع مستوطنات "غوش عتصيون"، كما تمنع الفلسطينيين من ترميم العين أو تأهيلها، بحجة أنها تقع ضمن أراضي مصنفة "ج".

وتبدو حظوظ أهالي قرية النبي صالح شمال غرب رام الله شبه معدومة، وهم الذين كانوا يستفيدون من "عين القوس" التي تقع قرب قريتهم، بسبب سيطرة المستوطنين عليها، وإعادة تسمية المكان باسم يهودي "معان مائير"، وبات ممنوعاً على الفلسطينيين الاستفادة أو الاقتراب منها بشكل قطعي.

ولأن أغلب مصادر المياه الجوفية موجود شرقي الضفة الغربية، يقول أمير داوود وتحديداً في محافظة أريحا والأغوار الفلسطينية، حيث الحوض الشرقي، فهو يقع ضمن دائرة الاستهداف الإسرائيلية منذ سنوات، حيث بنت سلطات الاحتلال 41 مستوطنة زراعية على أراضي المحافظة، حيث استولت عصابات المستوطنين على نبع "خلة خضر" في خربة الفارسية بالأغوار الفلسطينية الشمالية، وأقاموا بقربها بركة تجميع مياه، في خطوة تعطي مؤشرات واضحة على النية لمزيد السيطرة على مياه الينابيع وتجميع مياه الأمطار في المنطقة وحرمان الفلسطيني من حق الوصول اليها.

ويضيف داوود: استولى المستوطنون مطلع العام كذلك على نبع عين الحلوة في الأغوار الشمالية وقاموا بأعمال بناء وترميم في محيطها، وأقاموا متنزها في المنطقة وحرموا الفلسطينيين من استغلال النبع، الذي يعتبر مصدر المياه الرئيس لعشرات العائلات.

وفي ظل الحكومة الإسرائيلية اليمينية التي تضم ثلاثة مستوطنين، يجد المستوطنون فرصتهم للسطو على مياه الينابيع في الضفة الغربية، وتهجير سكان التجمعات البدوية والرعوية، وفي تعطيش الفلسطينيين.