الكاتب: د. عبد الرحيم جاموس
منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومع بدايات انهيار السلطنة العثمانية، بدأت تظهر ملامح مشروع استعماري جديد في المنطقة، لم يكن يرتكز فقط على السيطرة العسكرية أو السياسية، بل على إعادة تشكيل وعي مجتمعات بأكملها، بدءًا من الطفولة ، في قلب هذا المشروع، لعب التعليم اليهودي في البلدان العربية دورًا مفصليًا، لا بوصفه أداة للمعرفة، بل بوصفه أداة استراتيجية لفصل اليهود العرب عن مجتمعاتهم، تمهيدًا لزرعهم لاحقًا في الكيان الصهيوني الوليد.
تحت لافتة التنوير والتحديث، نشطت منظمات أوروبية مثل "الاليانس الإسرائيلية" في افتتاح مدارس يهودية في مختلف العواصم والمدن العربية، من المغرب إلى تونس، ومن مصر إلى العراق، كانت تقدم تعليمًا عصريًا من حيث الشكل، لكن المضمون كان سياسيًا بامتياز ، فالمناهج التي دُرّست، واللغات التي اعتمدت، والقصص التي رُويت، كانت تهدف كلها إلى ترسيخ شعور اليهود العرب بأنهم "آخرون"، غرباء عن محيطهم العربي، وأن مستقبلهم لا يمتد في أوطانهم، بل في "أرض الميعاد" التي تُهيأ لهم هناك، في فلسطين.
في العراق، الذي شكّل نموذجًا فريدًا لتعايش اليهود مع محيطهم العربي، تكشف الوثائق والشهادات حجم الاختراق الذي حققه التعليم الصهيوني عبر هذه المدارس ، الباحث العراقي فاضل البراك، في كتابه المهم "جذور الحركة الصهيونية في العراق"، يُظهر كيف لعبت هذه المدارس دورًا وظيفيًا مباشرًا في بثّ الدعاية الصهيونية، عبر تدريس اللغة العبرية، وتقديم التاريخ اليهودي وفق رواية الحركة الصهيونية، بل وتوفير بيئة فكرية منفصلة تمامًا عن المحيط الثقافي والاجتماعي العربي العراقي.
في تلك المدارس، بدأ الانفصال الوجداني لليهود العراقيين عن وطنهم ، وبدلًا من تعزيز شعور المواطنة والانتماء، زُرعت في عقول التلاميذ أفكار تُعظّم "الهوية اليهودية العالمية"، وتُصور المجتمعات العربية كمصدر دائم للاضطهاد والخطر ، هذا الفصل النفسي والثقافي لم يكن عبثيًا، بل مدروسًا، وممهدًا لمرحلة التهجير المنظم الذي حصل لاحقًا.
مع إعلان قيام "إسرائيل" عام 1948، تحوّلت تلك البذور الفكرية إلى واقع عملي ، ففي أقل من عامين، وتحديدًا بين 1950 و1951، تم ترحيل نحو 120 ألف يهودي عراقي إلى فلسطين المحتلة ضمن ما عرف بـ"عملية علياء". الغالبية العظمى منهم، كما توثق شهادات منشورة في أرشيفات إسرائيلية وأبحاث مثل تلك التي قدّمها شلومو سْڤيرسكي، كانوا من خريجي تلك المدارس، ممن تم إعدادهم نفسيًا لقبول فكرة الهجرة، بل والنظر إليها كخلاص فردي وجماعي.
الخطورة في هذا الدور لا تكمن فقط في نتائجه، بل في وسيلته ، فقد تم استخدام التعليم، هذه الأداة النبيلة، لخلق قطيعة ثقافية واجتماعية بين اليهود العرب وأوطانهم، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي لأبناء أقلية دينية كانت جزءًا أصيلًا من النسيج العربي ، لقد جرى تجريف الذاكرة والانتماء تدريجيًا، واستبدالهما بهوية جديدة مصنّعة تخدم مشروعًا استعماريا استيطانيًا عنصريا غريبًا عن الجغرافيا والتاريخ العربيين.
إن ما جرى في العراق تكرر بصور متفاوتة في مصر والمغرب وتونس واليمن ، وفي كل حالة، لعبت المدرسة اليهودية – المموّلة من الخارج والموجهة فكريًا – دور المُعبِّد الرئيسي لطريق التهجير الى فلسطين ، لتكون بمثابة أول محطة في رحلة الخروج من الوطن، والارتماء في حضن المشروع الصهيوني.
لذلك، فإن فهمنا العميق لأدوار هذه المؤسسات التعليمية لا يجب أن يقتصر على بعدها الأكاديمي أو الديني، بل يجب أن يُقرأ في سياقه السياسي العابر للزمن، كجزء من منظومة متكاملة سعت، ولا تزال، إلى اقتلاع شعوب بأكملها من أوطانها، وإعادة تشكيل خريطتها السكانية والفكرية لصالح كيان استعماري استيطاني عنصري ، لا يزال يعيش على وهم "الدولة النقية".
التعليم، إذًا، لم يكن أداة معرفة فقط، بل أداة اقتلاع. ولعل أخطر ما يمكن أن نغفل عنه هو تكرار هذه الأدوات، بصور جديدة، في أماكن وأزمنة مختلفة.