الإثنين: 28/04/2025 بتوقيت القدس الشريف

من باندونغ إلى فلسطين ، الأستعمار يتجدد والنضال مستمر

نشر بتاريخ: 27/04/2025 ( آخر تحديث: 27/04/2025 الساعة: 18:59 )

الكاتب:

مروان إميل طوباسي .

في ذكرى "مؤتمر باندونغ" التي حلت علينا يوم أمس بتاريخ ٢٥ نيسان ، وما بات يعرف "باليوم العالمي لمقاومة الإستعمار " ، نتذكر أن الشعوب حين تتوحد من أجل العدالة والحرية ، تصنع التاريخ . لقد أجتمع قادة دول الجنوب قبل سبعين عاماً في وجه قوى الأستعمار ، وأطلقوا مشروعا عالميا عنوانه التحرر والتضامن والعدالة . اليوم ، وفي ظل ما يتعرض له شعبنا الفلسطيني بمحرقة القرن ٢١ من إبادة وتهجير وأستعمار أستيطاني ، تعود روح "باندونغ" لتذكرنا أن الأستعمار لم ينتهِ ، بل تغيّر شكله وتعددت أدواته . ولذلك ، فإن نضالنا الفلسطيني هو أستمرار حي لذاك المشروع العالمي المناهض للأستعمار بكل أشكاله القديمة والجديدة.

إنّ المشروع الذي نشأ "بالعالم الثالث" لم يكن مجرد لحظة رمزية في منتصف القرن العشرين ، بل كان تعبيرا صادقا عن إرادة الشعوب المستعمَرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط في التحرر من الهيمنة الغربية وبناء نظام عالمي أكثر عدالة . وقد مثّل "مؤتمر باندونغ عام ١٩٥٥ " أول تجسيد عملي لتلك الإرادة المشتركة للشعوب المستضعفة بالأرض .

ففي مدينة باندونغ الإندونيسية ، أجتمع زعماء دول حديثة الأستقلال انذاك بقيادة زعماء وطنيين وشخصيات تاريخية مثل جواهر لال نهرو من الهند ، والزعيم جمال عبد الناصر من مصر ، وكوامي نكروما من غانا ، وجوزيف بروز تيتو من يوغوسلافيا والرئيس الإندونيسي سوكارنو ، بهدف صياغة موقف موحد ضد الأستعمار والإمبريالية ، ومن ثم انضم إليهم زعماء اخرين أمثال أبو عمار وكاسترو وبومدين وغيرهم . لم يكن المؤتمر فقط تحدياً للقطبين العالميين خلال الحرب الباردة ، بل كان إعلاناً عن ولادة مشروع شعبي عالمي أراد أن يبني توازناً جديداً في العلاقات الدولية .

لقد رفع المؤتمر ثلاث شعارات أساسية تمثلت ، بالسلام العالمي ، والخبز للشعوب ، والعدالة للجميع . وقد شكلت هذه الشعارات جوهر المشروع التحرري الذي مثّلته حركات التحرر بالعالم الثالث ، حيث توحدت شعوب الأرض المستضعفة خلف قضاياها العادلة ، وسعت لبناء تحالفات بديلة خارج نطاق الأستغلال الغربي .

لكن ومع بدايات السبعينات من القرن الماضي ، بدأت هذه الآمال تتلاشى ، ليس فقط بفعل تراجع بعض الأنظمة التي أستلمت الحكم بعد الأستقلال ، بل أيضًا نتيجة تدخلات الدول الغربية وأجهزتها (مثل وكالة الأستخبارات الأميركية CIA ، وصندوق النقد الدولي ، وحلف الناتو) التي سعت جميعها برعاية الولايات المتحدة لإجهاض أي محاولة لبناء نماذج مستقلة تنموية وتحررية وديمقراطية . وهي تدخلات ما زالت جارية حتى اليوم في منطقتنا من خلال محاولات القضاء على اي مقاومة للمشاريع الصهيونية الأمريكية لتنفيذ "مشروع الشرق الاوسط الجديد" وأيجاد السلطات المتجددة الموالية لها .

رغم هذه الانتكاسات ، بقيت روح باندونغ تُلهم حركات التحرر العالمية ، خصوصا في أمريكا اللاتينية وأفريقيا . وكان لفلسطين مكانة خاصة ضمن هذه الحركة ، فقد كانت قضيتنا الوطنية التحررية عنواناً جامعاً للضمير العالمي المناهض للأستعمار . ورأى فيها مفكرون ومناضلون أمميون نموذجا حياً لمعركة الحق والعدالة في وجه الأستعمار الغربي الأبيض والصهيونية العنصرية.

وقد أنضم الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى هذا المشروع التحرري العالمي بعد إنطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام ١٩٦٥ ، مجسداً روح النضال الفلسطيني كجزء لا يتجزأ من حركة التحرر الوطني لشعوب العالم الثالث . وكان حضوره في المحافل الدولية لا سيما في الأمم المتحدة عام ١٩٧٤ ، تأكيداً على هذا الأنتماء وهذا الدور للثورة الفلسطينية ، حيث رفع غصن الزيتون بيد والبندقية بيد أخرى ، مطالباً العالم بالأعتراف بحقوق شعبنا المشروعة والغير قابلة للتصرف .

واليوم ، وفي ظل المحرقة الإسرائيلية المستمرة ضد شعبنا ، والأستعمار الأستيطاني في الضفة الغربية ، والحصار والإبادة في غزة ، تعود أهمية استحضار روح "باندونغ" لبناء جبهة دولية جديدة مناهضة للأستعمار والإمبريالية ، يكون لفلسطين فيها صوت مركزي . إن ما يعيشه شعبنا الفلسطيني اليوم هو أمتداد مباشر لما واجهته شعوب العالم الثالث سابقاً من استغلال وقمع وأضطهاد ، بل هو أحد أكثر تجليات الأستعمار الحديث بشاعة .

فكما حلمت شعوب "مؤتمر باندونغ" بعالم أكثر عدالة وديمقراطية ، يحلم شعبنا الفلسطيني اليوم بالحرية والسيادة والعدالة . وما بين الحلمين ، جِسر من التضامن الدولي المتصاعد والمقاومة للأحتلال لا يزال ينبض .