الكاتب:
دكتور حسام أبوعيشة
فرضت النكبة على الفلسطيني أن يعيد اختراع أدوات وجوده، ومنها الدبلوماسية. حين وجد نفسه خارج أرضه بلا كيان سياسي معترف به، بدأ التمثيل في الأزقة والمخيمات، لا في القاعات الرسمية. فمن اتحادات الطلبة في بيروت، إلى الوفود الشعبية التي سبقت تأسيس منظمة التحرير، وُلد التمثيل من الحارات التي علمتنا أن الاسم أهم من الرقم، وأن الكوفية ليست زينة بل هوية، وأن العلم لا يُنزل حتى في أحلك اللحظات.
من هنا، لا يقتصر دور السفير الفلسطيني على الأداء السياسي والإعلامي، بل يتسع ليشمل تمثيلًا ثقافيًا رمزيًا. إنه في آنٍ معًا، حارس للذاكرة، وراوٍ لسردية شعب، ومتحدث باسم قضية لا تختزلها الأرقام ولا بيانات الإدانات. إنه ليس موظفًا رسميًا فحسب، بل شاهد يروي ما عاشه شعبه، بلغات العالم، لا بلغة المؤتمرات وحدها. فالدبلوماسية الفلسطينية خارج إطار الدولة هي فن التفاوض على المعنى، ومقاومة ناعمة ضد النسيان والمحو.
في عالم لم تعد فيه الشعارات وحدها تكفي، بل تتقاطع فيه المعرفة مع الإعلام الرقمي، لا يُنتظر من السفير أن يحمل جواز سفر فحسب، بل أن يحمل ذاكرة، ويكتب وطنًا، ويروي سردية. كتب إدوارد سعيد ذات مرة: "كنا نحمل أوطاننا في الكلمات، لا في الجوازات". لم تكن عبارة شاعرية، بل إعلانًا عن تحول المثقف إلى سفير، والكلمة إلى وطن بديل. من الاستشراق إلى خارج المكان، صاغ سعيد نموذجًا لدبلوماسية غير رسمية، مثّل فيها فلسطين بأدق من كثير من الخطب السياسية.
إتقان لغة البلد المضيف ليس ترفًا، بل ضرورة. فاللغة هي جسر التواصل ووسيلة الفهم المتبادل. سواء في إسبانيا أو كندا أو أستراليا، لا يكتمل تمثيل السفير ما لم يكن متمكنًا من لغة المكان وثقافته، مدركًا لتاريخه، متابعًا لتحولاته. السفير الذي يتحدث لغة الآخر، لا يبلغ رسالته فحسب، بل يترجم هوية شعبه إلى لغة مفهومة ومحترمة.
وهكذا، في فضاءات المنفى والشتات، يتقدم المثقف حين يغيب السفير، ويتكلم حين يصمت السياسي. لا تكفي البروتوكولات في تمثيل وطن مصلوب. فالسفير الفلسطيني هو مؤرخ متنقل، ومثقف ملتزم، وذاكرة حية تنطق باسم وطن يسكن اللغة أكثر مما يسكن الجغرافيا.
في إسبانيا، حيث يمتزج الفكر بتقلب السياسة، لا يُفهم التمثيل السياسي دون المرور بثقافة ثيربانتس وسخريته من السلطة في "دون كيخوتي"، أو دفاع خوان غويتيسولو عن المهمشين، أو كتابات أسونسيون أسيرا النسوية في أعقاب حقبة فرانكو. ومن لا يعرف أن إسبانيا اليوم مملكة برلمانية يقود حكومتها الاشتراكي بيدرو سانشيز، لن يستطيع قراءة ديناميكية المشهد السياسي المتقلب، حيث تتصارع قوى اليمين واليسار.
وفي أستراليا، لا يمكن للسفير أن يفهم طبيعة المجتمع دون التعرّف على أعمال باتريك وايت وكيت غرينفيل، أو الإحاطة بحركة "الأرض السوداء"، وفهم دور المؤسسات الفكرية في تشكيل الرأي العام. كما لا يكتمل الوعي السياسي دون إدراك أن النظام في البلاد فيدرالي برلماني، يرأسه حاليًا أنتوني ألبانيزي، في دولة تتوزع فيها السلطات بين الحكومة الفيدرالية والولايات، ويؤدي فيها الإعلام والنخب الفكرية دورًا بالغ التأثير في صناعة السياسات العامة.
أما في كندا، فلا يمكن للمثقف–السفير فهم المجتمع دون الاطلاع على أفكار يان مارتل وتشارلز تايلور، ولا على طبيعة التعددية الثقافية المعقدة بين الفرنسية والإنجليزية، وبين الليبرالية والمحافظة. ولا يكتمل التمثيل دون معرفة أن النظام ملكي دستوري برلماني فيدرالي، وأن رئيس وزرائها الحالي هو مارك كارني، زعيم الحزب الليبرالي الكندي، وأن السياسات تصنع بتأثير كبير من الإعلام والجامعات ومنظمات المجتمع المدني.
بهذا المعنى، تصبح الثقافة مرآة للسياسة، والسياسة موجّهة للثقافة. السفير – إن لم يكن قارئًا ومفكرًا ومثقفًا – سيبقى موظفًا بلا أثر. ومن يُبعث إلى مدريد دون أن يقرأ أورتيغا إي غاسيت، أو إلى أوتاوا دون أن يفهم فلسفة الاعتراف، أو إلى سيدني دون أن يسمع نداء السكان الأصليين، فهو يعجز عن تمثيل وطنه بصدق وفاعلية.
فالسفير الذي لا يقرأ، لا يمثّل. والسياسي الذي لا يفكر، لا يخطط. والمثقف الذي لا يخاطب الآخر بلغته وتاريخه، يبقى على الهامش في عالم لا يعترف إلا بالصوت الملمّ.
وفي النهاية، المثقف الحقيقي – سواء حمل صفة رسمية أم لا – هو من يكتب وطنه ويفهم الآخر. الكتابة ليست ترفًا، بل شكل من أشكال الحضور. من لا يكتب، لا يمثل. ومن لا يصغي، لا يُقنع. لست أدعو لاستبدال السفير بالمثقف، بل لتوحيد النموذجين في شخصية واحدة: سفير مثقف، يقرأ ويحلل ويترجم الهوية إلى لغة الآخر. فالسرد الثقافي الصادق قد يفتح ما تعجز عنه الخطابات الرسمية. ومن يمثل فلسطين بحق، هو من يفهمها جيدًا… ويفهم من يخاطبه، ليبني جسرًا لا جدارًا.
الكاتب: دكتور حسام أبوعيشة / استاذ الأدب المقارن والعلاقات الدولية جامعة فلسطين التقنية - خضوري