الخميس: 26/06/2025 بتوقيت القدس الشريف

التكنولوجيا... وقاية ضد الخرف

نشر بتاريخ: 25/06/2025 ( آخر تحديث: 25/06/2025 الساعة: 13:27 )

الكاتب:




عبد الرحمن الخطيب

لطالما ارتبطت التكنولوجيا، في خطابنا العام، بتهديدات تطال الذاكرة والتركيز والمهارات الذهنية، وخصوصا لدى الأجيال الجديدة، فمع توفر الحواسيب والهواتف الذكية ومحركات البحث والنماذج اللغوية الكبيرة، بدأ البعض يتساءل عن جدوى تدريب العقل على الحفظ أو على إجراء العمليات الحسابية أو حتى متابعة الأخبار، وتحوّلت التكنولوجيا، في بعض النشرات، إلى مرادف للكسل المعرفي و"تدهور الدماغ".

لكن الدراسة الحديثة التي نُشرت مؤخرا في تكساس، والتي حللت بيانات أكثر من 57 دراسة سابقة شملت أكثر من 400 ألف شخص فوق سن الخمسين، تقدم زاوية مختلفة تماما، فقد وجد الباحثون أن استخدام التكنولوجيا الرقمية من قبل كبار السن يرتبط بانخفاض يصل إلى 58% في خطر الإصابة بالخرف، كما أظهر مستخدمو التكنولوجيا معدلات أقل تتراوح بين 26 و34% من التدهور المعرفي بمرور الوقت، فالنتائج ليست نهائية، ولا تثبت علاقة سببية مباشرة، لكنها تسلط الضوء على رابط إيجابي مثير للاهتمام بين التكنولوجيا وصحة الدماغ.

يأتي هذا الاكتشاف في وقت يتزايد فيه عدد كبار السن في العالم، وتزداد فيه التحديات المرتبطة بالصحة المعرفية والدماغية، ففي مجتمعاتنا العربية، حيث تحظى الأسرة بمكانة مركزية، لا تزال رعاية كبار السن تُعد من القيم الأساسية، لكننا، في المقابل، نلحظ أيضا فجوة رقمية واضحة بين الأجيال، وكثيرون من كبار السن في العالم العربي لا يزالون يترددون في استخدام الهواتف الذكية أو الحواسيب أو التطبيقات، إما لعدم الثقة أو بسبب الصورة النمطية التي تفترض أن التكنولوجيا "للشباب فقط".

هذا التردد، وإن كان مفهوما في بعض السياقات، قد يحرم كبار السن من فرصة حقيقية لتحفيز أدمغتهم، وتعزيز ذاكرتهم، وتوسيع تواصلهم الاجتماعي، فالتكنولوجيا، بحسب الدراسة، لا تعمل فقط كوسيلة لتسلية الكبار أو تسهيل حياتهم، بل قد تمثل أداة فعّالة للوقاية من الخرف، واستخدام الهاتف لتذكير بمواعيد الدواء، أو تطبيق لتسجيل الملاحظات، أو التواصل مع الأبناء والأحفاد عبر مكالمة فيديو، كلها ممارسات تبدو بسيطة، لكنها – بحسب ما تشير إليه البيانات – ذات أثر حقيقي في تنشيط الدماغ وتقليل مخاطر التدهور المعرفي.

وفي هذا السياق، يبرز دور الذكاء الاصطناعي كتقنية واعدة يمكن أن تُحدث فارقا نوعيا في حياة كبار السن، خاصة في المجال المعرفي، فبفضل قدرته على التعلّم والتفاعل، بات بالإمكان تطوير تطبيقات ذكية تُشبه "صديقا افتراضيا" يساعد كبار السن على التذكّر، ويُجري معهم محادثات تحفّز الذاكرة، بل ويلاحظ التغيرات السلوكية التي قد تشير إلى بداية تدهور معرفي، وفي بعض الدول المتقدمة، بدأت بالفعل تجارب استخدام روبوتات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتقديم الدعم العاطفي والمعرفي للمسنين، وتحفيزهم على ممارسة الأنشطة الذهنية والاجتماعية.

كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم في تتبع مؤشرات صحية مبكرة مرتبطة بالخرف من خلال تحليل أنماط الكلام أو سرعة الاستجابة أو حتى مواعيد استخدام التطبيقات، ما يفتح الباب أمام تدخلات وقائية مبكرة قبل أن تتفاقم الأعراض. هذه الإمكانيات، إن أُتيحت في السياق العربي، قد تسهم في تحسين جودة حياة شريحة عمرية غالبا ما تُهمّش رقميا.

ولا يقتصر أثر التكنولوجيا في هذا السياق على تحفيز العقل فحسب، بل يتعداه إلى جانب نفسي واجتماعي مهم. فالوحدة والعزلة، كما تؤكد دراسات متعددة، ترتبطان بشكل وثيق بزيادة خطر الإصابة بالخرف. والتكنولوجيا، حين تُستخدم بشكل إيجابي، تُعيد فتح نوافذ التواصل مع العالم الخارجي، وتساعد كبار السن على الشعور بالاندماج والاستقلالية. من خلال تطبيقات بسيطة، يمكن للمسنين البقاء على تواصل مع العائلة، والمشاركة في المناسبات، ومتابعة ما يحدث في العالم من حولهم.

ولأن العلاقة مع التكنولوجيا تتشكل مبكرا في الحياة، فإن دعم كبار السن لاستخدامها يتطلب صبرا وتفهّما من الأبناء والأحفاد، فلا يكفي أن نمنحهم الهاتف أو الجهاز اللوحي، بل يجب أن نرافقهم في رحلة التعلّم، ونشجعهم على الاستمرار، ونتقبل محاولاتهم وأخطائهم، تماما كما يفعلون معنا حين نخطئ نحن في مراحلنا الأولى من الحياة.

في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، من المهم أن نعيد النظر في مفاهيمنا التقليدية حول "الأجيال الرقمية". فليس من الضروري أن يبقى كبار السن على هامش هذا التحول. بل إن إشراكهم فيه قد يكون، من الناحية الطبية والنفسية، ضرورة أكثر من كونه خيارًا. وإذا كانت التكنولوجيا تثير بعض المخاوف، فإن تجاهل إمكاناتها في دعم الصحة العقلية لدى المسنين يمثل مخاطرة أكبر.

ربما يكون من المهم لكل فرد فينا أن يتأمل في علاقته الشخصية مع من يكبرونه سنا، هل نمنحهم الفرصة لاستكشاف التكنولوجيا؟ هل نشجعهم على استخدامها بطريقة تحترم خصوصيتهم وتُشعرهم بالكفاءة؟ إذا كنا نملك الوسائل والمعرفة، فربما علينا أن نبدأ بالمشاركة، لأن الحفاظ على صحة العقل، كما يبدو، قد يبدأ بتفاعل ذكي... لا مجرد شاشة مضيئة.