الخميس: 26/06/2025 بتوقيت القدس الشريف

الحرمان في غزة: من تجويع المعدة إلى اغتيال الكرامة

نشر بتاريخ: 25/06/2025 ( آخر تحديث: 25/06/2025 الساعة: 13:29 )

الكاتب: مصطفى ابراهيم

أتعرفون ماذا يعني الحرمان لأهل غزة؟ الحرمان، في معناه اللغوي، هو المنع من شيء ما. لكنه في غزة يأخذ شكلاً أكثر قسوة، وشمولاً، وتجذّرًا. في غزة، لا يُحرم الناس من شيء محدد، بل من كل شيء. من الحياة، من الأمل، من الهدوء، من النوم، من رغيف الخبز، الطعام، من الماء، من الكهرباء، من الدواء، من الحركة، من دفء البيوت، والذكريات، ومن دفء العلاقات الإنسانية التي فككتها حرب الإبادة الجماعية، والاحتلال والتجويع المتعمد.

في غزة، لم يعد الحرمان حالة مؤقتة أو ظرفًا استثنائيًا، بل تحوّل إلى منظومة عقابية ممنهجة، تُدار بوعيٍ وعن سابق إصرار من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وتُغلف بتبريرات أمنية وقانونية لا تصمد أمام أبسط المعايير الأخلاقية. إنها سياسة العقاب الجماعي، لا تُخفي نفسها ولا تعتذر عن وحشيتها، بل تمضي بلا خجل في إذلال أكثر من مليوني إنسان محاصرين في منطقة ضيقة مزقها الاحتلال، وقلص مساحتها ويسيطر على 80% منها.

منذ سنوات طويلة، يعيش أهل غزة في واقع استثنائي لا نظير له في العالم. أكثر من 2.3 مليون إنسان يعيشون في مساحة لا تتجاوز 365 كم²، معزولين عن العالم، تحت رقابة صارمة وتحكّم كامل في المعابر والحدود، وفي أدق تفاصيل حياتهم، من الكهرباء والوقود إلى قائمة الأدوية والكتب المدرسية. في غزة، الحرمان ليس نتيجة الفقر، بل نتيجة سياسة مقصودة، ممنهجة، تفرضها إسرائيل كعقوبة جماعية، ويشارك فيها العالم بالصمت أو بالتواطؤ أو بتبريرات أمنية جوفاء.

في غزة، لا يوجد نقص في الغذاء بسبب غياب الإمكانيات الزراعية أو انهيار اقتصادي فحسب، بل لأن دخول المساعدات الغذائية والامدادات المختلفة مقنن ومحكوم بإرادة الاحتلال. ليست المسألة مجرد حصار، بل قائمة انتظار طويلة لشاحنات الطحين والحليب والزيت والأرز، التي تُفحص واحدة تلو الأخرى، وتُحتجز أحيانًا لأيام أو أسابيع بحجج أمنية واهية. وحتى عندما تدخل، لا تغطي الكميات الحد الأدنى من احتياجات السكان، خصوصًا في ظل التدمير الممنهج للبنية الزراعية والصناعية خلال دورات العدوان السابقة.

مشاهد الطوابير الطويلة على شاحنات الطحين، و"جولات الموت" والصراعات التي يخوضها الناس سيرًا على الأقدام تحت القصف للحصول على كرتونة معلبات، لم تعد استثناءً، بل قاعدة. الجوع هنا ليس نتيجة ظرف طارئ، بل سياسة تجويع منظمة تُدار بدم بارد ولا ضمير.

قطاع غزة منطقة من أكثر المناطق عطشًا في العالم. أكثر من 95% من مياه الشرب غير صالحة للاستخدام البشري، حسب تقارير الأمم المتحدة، بسبب استنزاف الخزان الجوفي، وتدمير الاحتلال لمحطات التحلية، أو منع إدخال المعدات اللازمة لإصلاحها. تنتشر أمراض الكبد الوبائي والكلى والجلد والأمعاء بين الأطفال والكبار نتيجة المياه الملوثة، لكن ذلك لم يحرك ضمير العالم، ولا يُدرج في قائمة "الكوارث العاجلة".

الاحتلال مستمر في تُدمير عشرات آلاف البيوت، وتُسوى مدن وأحياؤها بالأرض، ويُجبر مئات الآلاف على النزوح مرات عديدة. والعائلات تبيت للنوم في الشوارع، في الخيام، أو ما تبقى من مدارس الأمم المتحدة التي تحولت إلى ملاجئ جماعية تفتقر لأبسط الشروط الآدمية. حتى البيوت التي لم تُدمر، صارت سجونًا صغيرة بسبب انقطاع الكهرباء، وانعدام الماء، وتراكم النفايات. في غزة، لا يوجد شيء اسمه "عودة إلى البيت" بالمعنى الآمن، فالبيت مهدد في أي لحظة، في أي غارة جوية.

الحرمان الصحي في غزة مأساة مكتملة الأركان. آلاف المرضى والمصابين، خاصة من مرضى السرطان والكلى، يموتون ببطء، لأن الأدوية غير متوفرة، أو لأنهم ممنوعون من السفر للعلاج في الخارج. الاحتلال يفرض شروط صارمة على المرضى ومرافقيهم، وكأن المرض تهديد. ما تبقى من مستشفيات القطاع، المحاصرة، تعمل في ظل نقص دائم في الكوادر والمعدات والمستلزمات الطبية، وتحولت إلى نقاط إسعاف تحت القصف.

غزة تتعرض لأشكال متعددة من الحرمان ومنها عدم القدرة على سرد الرواية. غزة لا تُشاهد كما هي، بل كما يراد لها أن تُعرض كحدث. تُختزل المعاناة في صور إنسانية منفصلة عن السياسة وعن الحق الفلسطيني بالحرية وتقرير المصير. تُعرض صور الأطفال الجوعى كأنهم في فيلم وثائقي من عصور غابرة، لا كضحايا لاحتلال فاشي يفرض حصارًا وجودياً وجوعاً وموتاً. المنصات الإعلامية الغربية الكبرى، في معظمها، لا تتحدث عن السبب بل عن "المأساة"، وتدافع عن حق إسرائيل بالدفاع عن النفس، وكأن الغزيين اخترعوا الجوع والموت لأنفسهم.