السبت: 18/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

هي معجزة .....أن تصنع الفرح في زمن السجن

نشر بتاريخ: 16/11/2016 ( آخر تحديث: 16/11/2016 الساعة: 15:15 )

الكاتب: عيسى قراقع

لا يستطيع أي إنسان إلا أن يبكي عندما يشاهد أمهات الأسرى وأبنائهم يحملون شهادات النجاح في امتحانات الثانوية العامة لأبنائهم الأسرى في سجون الاحتلال.

بين عيني رأيت أمهات الأسرى يحملن شهادات أبنائهن الأسرى، يزغردن، القلب يدق ويدق، يضخ دعاء و رضى ويقين، يزرعن الوعد في نسغ الانتظار، ويستقبلن قمرا تدلى جميلا بلا منفى وقيود.

ويصعد خيال الإنسان ويمتد وهو يتصور الأسير واقفا يحمل شهادته ويلتحق بالجامعة تاركا خلفه ظلمات السجون ومعاناة السنين الصعبة والقاسية، يراه يخطو إلى الأمام، خارج بوابة السجن الحديدية، مشبعا بالأمل وبذخيرة فائضة من الحياة.

لقد نجح 708 طالبا أسيرا في امتحانات التوجيهي لعام 2016 وبنسبة نجاح تساوي 69% واحتفل الناس وأهالي الأسرى في كل المحافظات بهذا النجاح لأبنائهم الغائبين إلى الدرجة التي أصبحت فيها الشهادة عبارة عن نافذة أخرى لم يكتشفها السجان تطل على الحرية القادمة.

لقد كان تحديا غير مسبوق ، أن يكمل الأسرى تعليمهم الثانوي والجامعي ردا على سياسة وقف التعليم التي اتخذتها حكومة نتنياهو اليمينية كجزء من عقاب الأسرى والضغط عليهم، وكجزء من إستراتيجية الاحتلال الهادفة إلى طمس التعليم والثقافة وتحويل زمن السجن إلى عبء ثقيل جدا على حياة الأسرى.

إن لجان تدريس من الأسرى عملت بمثابرة رائعة وحولت غرف وأقسام السجون إلى جامعات ومدارس مذهلة، مواكبة على الدراسة والبحث وأحدثت ثورة حقيقية في حياة الأسرى الذين اظهروا مدى تعطشهم للدراسة بقدر تعطشهم للحرية.

الأسير أسامة عصيدة وصف الحياة التعليمية بالسجون بأنها تثير الدهشة والإعجاب وتدعو للفخر والاعتزاز ، فقد تغيرت حياة الأسرى بشكل كامل وأصبح التعليم هو الشغل الشاغل لهم مما ترك أثرا ايجابيا واضحا على مناحي حياتهم داخل السجن.

أن التعليم قد أضاء ليل السجن الحالك، وانتصرت إرادة التعليم على محاولات التجهيل وسياسات الإفراغ الثقافي والوطني ، وخلق هوية جامعة للأسرى على حساب الهويات الأخرى السلبية كالولاءات الجغرافية والفئوية والحزبية، وسقط رقم الأسير الجامد الذي ينزع عنه اسمه وإنسانيته ليستبدل برقم دراسي وجامعي.

منذ عام 2014 انتظمت العملية التعليمية الثانوية في السجون حيث تقدم في هذا العام 1088 طالبا نجح منهم 427 طالبا، وفي عام 2015 تقدم 1229 طالبا أسيرا نجح منهم 654 أسيرا، وفي عام 2016 تقدم 1026 طالبا أسيرا نجح منهم 708 طالبا، وقد ساهم في تعزيز هذا الانجاز وهذه المسيرة وزارة التعليم العالي الفلسطينية بوزيرها وطواقمها والتي اعتبرت التعليم للأسرى جزء من المقاومة وبناء الإنسان الأسير وتحصينه بكل أسباب القوة والعزيمة للتغلب على واقعه القاسي.

الأسير القائد مروان البرغوثي الذي يعتبر مفجر الثورة التعليمية بالسجون قال أن التعليم حطم الروتين القاتل بالسجن وأدخل الأسرى في مناخ وحياة شبه طبيعية تحاكي واقع الحياة الجماعية في الخارج، وأشار أن تكوين الوقت وبذل الجهد لخدمة الأسرى هو واجب وطني وأخلاقي ونضالي مقدس.

الأسير القاصر المبتور القدم جلال شراونة يحصل على شهادة التوجيهي، احتفال في مستشفى سجن الرملة، يتعكز جلال الآن على غده الآتي، ثابت الخطوتين يمشي مرحا في الطريق الى البيت، صاعدا جبل الألم.

الشهيد الأسير فادي الدربي يحصل على شهادتين، شهادة التوجيهي قبل وفاته مريضا في السجن بعد 14 عاما، وشهادة الحرية والحياة بعد استشهاده وفاءً لعمره الذي تجدد ولأمه الصابرة.

الأسيرة مرح باكير تحصل على شهادة التوجيهي، نساء يتوحدن بين الخارج والداخل ويفجرن أنوثة المقاومة ، يقتربن من الفجر ويجتحن الدنيا في أول خطاها.

الأسير المريض بالسرطان طارق عاصي حصل على شهادة التوجيهي، أنفاس في الرئتين، دواء مختلف في الشرايين الصلبة، وقد قرر أن لا يسمح للاحتلال بعد اليوم أن يحدد موعد جنازته ،وسيتابع النزيف الوردي حتى آخر ضوء أخضر.

هي معجزة أن تصنع الفرح في زمن السجن، ومعجزات الأسرى أصبحت كثيرة، فقد هربوا النطف وأنجبوا الأطفال، وقد خاضوا إضرابات ملحمية عن الطعام ضد الاعتقال الإداري وانتصروا دائما، وها هم يفتحون فروعا للجامعات والمدارس في ساحات السجون، يتطلعون إلى اليوم الآتي، يكسرون المؤبد ويتحررون طلقاء في فضاء حياتهم الحرّة .
منذ البدايات خاض الأسرى معارك المواجهات والإضرابات من اجل الحق في التعليم والحصول على القلم والكتاب، وانتصروا كثيرا عندما رأت النور تلك الإبداعات والنتاجات الفكرية والثقافية، فأبحروا في رواياتهم ورسائلهم وقصائدهم وأناشيدهم ولوحاتهم بعيدا بعيدا عن السياج والحصار، وقريبا قريبا من القدس وروح المكان، كانت الكلمات تشير إلى كائنات حيّة تشتبك مع ليل القضبان.

التعليم والإصرار عليه داخل السجون كان ردا على كل المفاهيم والإجراءات الإسرائيلية التي أرادت أن يتحول الأسرى إلى معاقين مدمرين بلا قيمة إنسانية ووطنية وقانونية، وقد اثبت التعليم أن الأسرى بشرا يتطلعون ابعد من مما ينظر إليه الاحتلال، لهم حياة قادمة مفعمة بالعطاء في وطنهم وان هذا الاحتلال عابر ومؤقت وجاهل والى زوال.

الشاعر سميح القاسم يخاطب الأسرى قائلا:

نحن لا نجهل الفرق يا إخوتي
بين معرفة الدم والمعرفة
نحن لا نسأل الخارطة
دمكم وحده الخارطة
ليس للنقب أو للجليل
دمكم شارة في الطريق الطويل