الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

إبليس مُفّكِراً وداعش مُنفّذِاً

نشر بتاريخ: 02/08/2018 ( آخر تحديث: 02/08/2018 الساعة: 10:34 )

الكاتب: د.وليد القططي

كتب مصطفى الرافعي في كتابه (وحي القلم) مقالاً بعنوان: الشيطان يُعلّم، روى فيه حواراً مُتخيّلاً بين شيخ وإبليس، موضوعهُ: طُرق الشيطان في غواية الإنسان، وعندما حمَي وطيس الحوار واشتد أوار الجدال وصل إلى سُبل إبليس في إفساد إيمان الزُهّاد وإتلاف يقين العُبّاد، إذا عجز بكل مكره عن إفسادهم من أبواب الشهوات ومداخل النزوات، قال إبليس: الزُهّاد والعُبّاد هم الصالحون لأن يكونوا أعظم الأبالسة، فاستغرب الشيخُ من مقولتهِ، فزادهُ إبليسُ توضيحاً بقوله: ما غلا إنسانٌ في زعمِ التقوى والفضيلة إلاّ كانت هذه هي الإبليسية ، وفي نهاية الحوار سألَ الشيخُ إبليس: لعنك الله، فإن لم تستطع إفساد يقين المؤمن، فكيفَ تصنعُ في فتنتهُ؟، قال إبليس: إن لم استطع إفساد يقين المؤمن زدته يقيناً فيفسد، واستحسان الرجل لأعماله السامية قد يكون هو أول أعماله السافلة، وبأي عجيب يكون الشيطان إلاّ بمثل هذا؟!. .
إذا كان الحوار بين الشيخ العالم وإبليس الملعون من نسج خيال الكاتب أو بنات أفكار الراوي؛ فإن مضمونها قد أصاب كبد الحقيقة وقلب الواقع، فالإفراط في الدين، والغلو في مظاهر التدين، والتنطع في شعائر العبادة... هو الوجه الآخر للتفريط في الدين، والتقصير في مظاهر التدين، والاستهانة بشعائر العبادة... وكلاهما- الإفراط والتفريط- من تفكير وإبداع إبليس يوحي به إلى ذريته وأتباعه من شياطين الإنس والجن، فيلبس الحق بالباطل، ويولج الطاعة بالمعصية، ويُدخل الفضيلة بالرذيلة، حتى يوقع الإنسان في حباله وشباكه مُستغّلاً الثغرات التي يغفل عنها الانسانُ في نفسه. وما الذي أضل الخوارج وأمثالهم في الزمن الغابر، وأغوى الدواعش وإضرابهم في الزمن الحاضر، غير هذا الإفراط والغلو والتنطع في الدين؟!، فصدّق عليهم إبليسُ ظنّهُ، وصبَّ في عقولهم خُلاصة خبثه، وغرس في نفوسهم حصيلة مكره، وزرع في قلوبهم مُنتهى شرهِ، فأوهمهم أنهم الطائفة المنصورة في الدنيا، والفرقة الناجية في الآخرة، والجماعة الوحيدة المالكة للحقيقة، والعُصبة الفريدة القابضة على الدين.
هذا الاعتقاد المنحرف والفكر الفاسد الذي يستحوذ على عقول المتطرفين؛ فيوهمهم بامتلاك اليقين الكامل، واحتكار الحقيقة المُطلقة، وحيازة حصرية للدين، يمنحهم شعوراً مريضاً بالأفضلية والتميّز، وإحساساً خادعاً بالتفوّق والاستعلاء... يتطور إلى مرضٍ مُركّب من العُجب والكِبر، العُجب بالذات الفردية والجمعية، والكِبر على الآخرين- أفراداً وجماعات- فينتهي بهم المطاف إلى الغرور واحتقار ما عداهم من البشر، ويتحوّل الاحتقار إلى حقد وضغينة ورغبة في الانتقام وهوّس في سفك الدماء، تحت غطاء شرعي يُخرج غير المسلمين من دائرة الإنسانية، ويُخرج المسلمين المُخالفين من دائرة الإسلام، تمهيداً لاستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم، فيكون إبليس بذلك قد نجح في حيلته، وأفلح في خديعته، بعد أن جمّلَ لهم معتقداتهم الشريرة فرأوْها خيّرة، وزيّنَ لهم سوءَ أعمالهم فرأوْها حسنة، وأغراهم باتخاذ فتاوي جُهّالهم ديناً بدلاً من دين الله، وأهواء سفهائهم آلهةً تُعبدُ من دون الله.
إذا كانت خدعة إبليس بزيادة يقين (المؤمن)، أو توهمه الخادع بوصوله إلى عين اليقين؛ لإيهامه بامتلاك الحقيقة المُطلقة، وفهمهُ الحصري للدين، هي إحدى إبداعات إبليس الفكرية في إضلال بني آدم وإفساد إيمان العُبّاد، فإن شياطين الإنس لا يقلّونَ خطورة عن إخوانهم شياطين الجِن، فبعضهم يوحي إلى بعضٍ زُخرُف القولِ غروراً، وقد جاء نتيجة لهذا الوحي المتبادل الآثم كل الحركات الإيديولوجية الدوجماتية (الجامدة) المتطرفة الدينية والقومية والشيوعية والعنصرية، التي يجمعها أدعاء امتلاك الحقيقة المُطلقة، وتنزعها عن الآخرين كُليّاً، وتذهب أبعد من ذلك بإخراجهم من دائرة الدين بتكفيرهم، ودائرة الوطن بتخوينهم. بل تذهب إلى إخراجهم من دائرة الإنسانية فتضعهم في مرتبة دون الإنسان وأقرب إلى الحيوان أو الشيطان...، أليس هذا ما تفعله داعش وأخواتها في إطلاق مصطلحات الكفار والمرتدين والرافضة وغيرها على كل من لا ينتمي إليهم ويدخل في جماعاتهم، وقد يكون هذا أيضاً ما يفعله بعض خصومهم بهم غير المبرئين من التطرف المضاد.
ويدخل في هذا الإطار كل الجماعات التكفيرية المتطرفة التي تنسب نفسها للإسلام، والتي يعود جذورها التاريخية منذ صدر الإسلام، عندما استحل حفنة من المتمردين قتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان- رضي الله عنه- وعندما ابتكر الخوارج بدعة تكفير المسلم التي قادتهم إلى قتل الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - واستحلوا دماء وأموال وأعراض كل مخالفيهم من المسلمين... لتنتهي هذه البدعة الشريرة والفرية الأثيمة إلى القاعدة وداعش وأخواتهما التي خرجت جميعها من لهيب الصحراء حيث خرج قرن الشيطان، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان- البخاري ومسلم – وأخبرنا فيه عن مكان خروج الفتن ومعها قرن الشيطان، وكما أخبرنا الإمام علي بن أبي طالب – كرّم الله وجهه- قبل أربعة عشر قرناً عنهم وكأنه يشاهدهم عياناً قلوبهم كزبر الحديد، هم أصحاب الدولة... يدعون إلى الحق وليسوا من أهله، أسماؤهم الكُنى ونسبتهم القُرى، شعورهم مُرخاة كشعور النساء..... .
بعد كل ذلك؛ أليست داعش وأخواتهما أكبر مُنفذّة لفكرة إبليس التي ذكرها الرافعي في مقالة (الشيطان يُعلّم)، وأكبر خادمة لدولة (إسرائيل) والمشروع الاستعماري الغربي والأنظمة الاستبدادية، وأكبر أداة لتشويه الإسلام والتحريض ضد المسلمين، وقبل ذلك وبعده أليست دليلاً على أن إبليس مُفكّرٌ، ولكنه مفكرٌ من النوع الخبيث الذي ينفخ في قرن الشيطان، ربما قرن الشيطان هو الذي نفخ فيه أسوة بأخيه (بلعم بن باعوراء) الذي انسلخ من آيات الله فاتبعهُ الشيطانُ فكان من الغاوين.