الجمعة: 10/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

في ذكرى ميلاده الـ150-هل كان المهاتما غاندي مناصراً للقضية الفلسطينية؟

نشر بتاريخ: 01/10/2018 ( آخر تحديث: 01/10/2018 الساعة: 10:13 )

الكاتب: د.محمود الفطافطة

كان أهم نتائج الإستعمار البريطاني للهند ظهور ما يُمكن تسميته "بالقومية الهندية" وتشكلها، بداية، بظهور حزب المؤتمر الوطني الهندي الذي تأسس عام 1885م؛ ما لبث أن أصبح منذ عام 1905 تنظيماً مناضلاً من أجل التحرير والإستقلال. وفي عام 1920 تزعم الحزب "المهاتما غاندي" الذي أمضى زهاء ثلاثة عقود في تنظيم وقيادة حركات مقاومة تستند إلى "فلسفة اللاعنف" أو " المقاومة السلمية" ضد الإحتلال البريطاني الذي كان في بعض الأحيان يرضخ لبعض المطالب، فيبادر إلى زيادة عدد أعضاء الجمعيات التمثيلية الهندية وتوسيع صلاحياتها.
هذه الشخصية القيادية، تاريخياً، سواءً للهند أو للعالم كافة، كان لها دورٌ ملحوظ ومؤثر في قضايا الهند المعاصرة، وشؤون العالم عموماً. فداخلياً كان دائم الحفاظ على الهند كدولةٍ مستقلة وموحدة، كما استطاع أن يضرب بعرض الحائط الشرعية " الأخلاقية" للحكم الاستعماري؛ متحدياً الهيمنة البريطانية على بلاده، ولذلك، فقد رفض غاندي القبول بأي شيء أقل من المساواة الكاملة بين الثقافة الهندية ومثيلتها البريطانية.
كان غاندي يأمل أن تتآلف قلوب الهندوس والمسلمين بعد رحيل الاستعمار البريطاني عن بلده، وكان يرغب في أن يتم تمثيل الهندوس والمسلمين والسيخ من خلال حزب المؤتمر الوطني الهندي. ولكن الاقتتال الدموي بين الهندوس والمسلمين، وما نجم عنه من انفصال الهند إلى دولتين ( الهند وباكستان) حطم آمال هذه الشخصية التي كانت تسعى، دوماً، إلى السلم والتصالح والحب والتآخي بين الطوائف والأعراق التي امتازت بها الهند.
فغاندي لم يكن نموذجاً، في سلمية الكفاح ضد المحتل فحسب؛ بل أكثر في سلمية التعايش وضرورة المساواة بين مكونات الأمة الهندية، سواءً أكان ذلك طبقياً أو دينياً . فمن الجانب الديني عمل كثيراً على وحدة المسلمين والهندوس، كما وظل المهاتما طيلة حياته يؤمن بأن كافة المتدينين، أكانوا مسلمين أو مسيحيين أو هندوس فإنهم يعبدون إله واحد. أما طبقياً فكان محارباً للظلم والتمييز بكافة صوره وأشكاله.
أما خارجياً، فنحصر حديثنا حول موقف غاندي من القضية الفلسطينية، إذ سعت الحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل إلى إقناع الزعماء الهنود بالاعتراف بالوجود اليهودي في فلسطين، حيث رَصدتْ بعض المصادر التاريخية محاولات صهيونية ويهودية للاتصال مع (المهاتما غاندي) بهدف انتزاع موافقته على شرعية هذا الوجود، إلاّ أنّ هذه المحاولات لم تنجح؛ لقناعة غاندي بأنّ الصهيونية ما هي إلا امتداد للغرب، وتشكل جزءاً من مؤامرة استعمارية لاقتسام المشرق العربي، وإعادة احتلاله من جديد.
ومن أبرز هذه المحاولات قيام (حاييم وايزمان)، أحد أهم قادة الحركة الصهيونية، بالاتصال مع أصدقائه الهنود للتأثير في مواقف غاندي بغية استمالته للفكرة الصهيونية. ومثله فعل (هيرمان كالينباخ) الصهيوني الذي كان صديقاً مُقرباً لغاندي في جنوب أفريقيا، بينما حاول داعية السلام الأميركي (جون هولمز)؛ بناءً على طلب من اليهودي (ستيفن وايز) إقناع غاندي بتأييد مطلب تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. في ذلك الحين كان (المهاتما غاندي) زعيم الهند بلا منازع، لذا؛ لم يكن أمراً غريباً أن تسعى إليه الحركة الصهيونية في محاولةٍ لكسبه إلى جانبها، لما كان يتمتع به من تأثيرٍ في الهند وخارجها.
ومن تلك المحاولات أيضاً، الزيارة التي قام بها المبعوث الرسمي للوكالة اليهودية (أولزفانجر) للهند عام 1936 بهدف إقامة علاقات رسمية مع العديد من القيادات الهندية؛ أملاً في الحصول على تأييدهم للمشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، وهو لئن فشل في مهمته تلك؛ فإنه نجح في التواصل على المستوى الشخصي مع ( نهرو) كما فعل من بعده وايزمان الذي التقى الزعيم الهندي بلندن عام 1938. جدير ذكره، هنا، أنه كان لدى غاندي كثير من الأصدقاء اليهود الصهيونيين، وبواسطتهم قرأ كثيراً من الكتابات الصهيونية، ولو تمكنت الحركة الصهيونية من نيل تأييد غاندي المعنوي لكان ذا أهمية دعائية بالغة لها، ولكن اعتراضه الرئيس على هذه الحركة هو أن مخططها يهدف إلى استبدال شعب آسيوي أصيل بجماعةٍ من المهاجرين الأجانب.
أما المحاولة الأخيرة فتمت عبر الصحفي الأمريكي (لويس فيشر)، وقد أشاعت الحركة الصهيونية بعدها أن غاندي يؤيد الدعوى الصهيونية في فلسطين، الأمر الذي أدى به لأن يُعلن، وبشكلٍ أعنف من أي مرة سابقة، رفضه للادعاء الصهيوني . وكان ممَا قاله: " لقد أخطأ اليهود كثيراً في محاولاتهم فرض أنفسهم على فلسطين بمساعدة أوروبية وأميركية وبريطانية، والاعتماد على الإرهاب المفتوح". وتساءل: لماذا يعتمد اليهود على أموالٍ أميركية لفرض أنفسهم في أرضٍ غير مرغوب بهم فيها؟
هذه الشخصيات الصهيونية توقعت تعاطفاً مع المطالب اليهودية من جانب غاندي، استناداً إلى روايتهم لما عاناه أبناء جلدتهم من مظالمٍ وقهر في أوطانهم الأوروبية، ولكن غاندي لم يتأثر أو يقتنع بحجية ما ساقوه من ذرائع؛ إذ علق قائلاً: " إن التعاطف مع مأساة اليهود يجب ألا تعميني عن رؤية وجه العدالة واستحقاقاتها". هذا الحرص الشديد لرموز الحركة الصهيونية العالمية في انتزاع تأييد الهند لقضيتهم ناجم من واقع حيثيات عدة، أهمها:
1ـ اعتبار الهند دولة كبرى في محيطها الإقليمي، وبعد تحصلها على استقلالها انضمت إلى المنظمة الأممية كعضو مؤسس، فضلاً عن انتخابها ضمن الأحد عشر عضواً في لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين في مايو/ أيار عام 1947.
2ـ اجتذاب مسلمي الهند باعتبارهم أكبر تجمع إسلامي خارج العالم الإسلامي لاهتمام العالم عامة والإسلامي خاصة، ولم تكن الحركة الصهيونية استثناءً من هذا الاهتمام، بل إن حقائق مؤكدة أشارت إلى أن اعتراض العالم الإسلامي على وعد بلفور كان وراء تباطؤ بريطانيا في إعلانه رسمياً تحسباً لاحتجاجات عربية وإسلامية من ضمنها احتجاج مسلمي الهند.
3ـ تلون موقف حزب المؤتمر الهندي من القضية الفلسطينية باللون الديني احتراماً لمشاعر قرابة خمس وخمسين مليون مسلم هندي وقتذاك؛ تأججت بفعل خطب وتصريحات الحاج (أمين الحسيني) مفتي القدس حينذاك الذي حرص على إكساب القضية طابعاً دينياً محضاً من أجل اجتذاب أكبر شريحة من المؤيدين والمتعاطفين مع مشروعية الحقوق الفلسطينية.
4ـ وجود تناغم في الرؤى والمواقف ما بين غاندي الحسيني استناداً إلى محاربتهما الإمبراطورية البريطانية، وإن اختلف النهج في أسلوب المقاومة، وهو أكثر ما كانت تخشاه الحركة الصهيونية العالمية، خصوصاً إذا تم (أسلمة) القضية الفلسطينية.
إلى ذلك، أعلن غاندي رفضه التام لوعد بلفور عام1917، قائلاً:" إن فلسطين لا يمكن أن تكون جزءاً من التسويات الإقليمية لما بعد الحرب العالمية الأولى، ويستحيل أن تُصادف مسلماً واحداً يوافق على سلخ فلسطين من الجسد العربي لمنحها كوطن قومي لليهود، إنها جزء لا يتجزأ من أراضي الجزيرة العربية مهبط الإسلام . إن الجنود المسلمين لم يُريقوا دماءهم في معارك الحرب العالمية الأولى ليروا فلسطين وقد انتزعت من قبضتهم وسيطرتهم".
لقد جاء هذا التصريح من جانب غاندي الذي أدلى به عقب إعلان وعد بلفور، وقبل قرار عصبة الأمم بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني عام 1922، لينسخ كل آمال صهيونية في موقف هندي مؤيد للمطلب اليهودي في وطن قومي بفلسطين. ولم تهدأ المساعي الصهيونية في محاولة استمالة غاندي لمطلبها، لذا؛ سعت الدوائر الصهيونية إلى ترتيب لقاء مع غاندي أثناء مشاركته في مؤتمر المائدة المستديرة بلندن في أكتوبر/ تشرين أول1931، حضره كل من (سوكلييف) و (بريدستكي) اللذان حملا رسالة توصية إليه من صديقه القديم (بولاك) في محاولةٍ جادة لحمله على تغيير موقفه، ولكن دونما جدوى، خصوصاً أن قضية استقلال الهند استأثرت بجل اهتمام غاندي آنذاك.
ويشير المهتمون بدراسة موقف الزعيم الهندي من المسألة الصهيونية إلى مقال نُشر له في صحيفة (هاريجان) في 2 نوفمبر/ تشرين ثاني 1938، جاء فيه:" لقد استدعيت مراراً، ومن خلال العديد من الرسائل التي تلقيتها من أصدقاء يهود إلى الإفصاح عن موقفي إزاء قضيتي فلسطين واضطهاد اليهود في ألمانيا، وإني أعلنها صراحة وبدون تردد إنّ فلسطين للفلسطينيين، كما أنّ بريطانيا للبريطانيين، وفرنسا للفرنسيين، ومن الخطأ فرض اليهود على العرب". هذا المقال أشاع خيبة أمل كبيرة لدى قطاع عريض من غلاة الحركة الصهيونية مع خشيتهم من أن يؤدي رأي غاندي إلى تغليظ المواقف العربية والإسلامية من المشروع الصهيوني.
وفي مناسباتٍ أخرى نجده يقول: " ليس من حق اليهود السيطرة على بلدٍ ظل لقرون عديدة تحت السيادة الإسلامية، وأن الدعوة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين لا تروق لي". كرر غاندي مراراً أن إقامة وطن لليهود في فلسطين يستلزم موافقة أصحاب الأرض الشرعيين، رافضاً بحسم الادعاء الصهيوني المضلل بكون فلسطين أرض بلا شعب، ومعلناً أن التحرر لا يتحقق بالتعاون مع الإمبريالية، ومن ثم مُعللاً رفضه مساندة بريطانيا خلال جولات الحرب العالمية الثانية، حتى ولو رفعت شعار حماية الأنظمة الديمقراطية ضد النازية والفاشية، إذ يتساءل مسُتنكراً: كيف يتأتى ذلك وبريطانيا تحتل الهند وتخضعها لهيمنتها؟، داعياً اليهود إلى عدم التحصن بالانتداب البريطاني وعدم صيرورتهم أداة منفذة للمخطط الاستعماري البريطاني.
يعتبر غاندي أول زعيم لاديني يطرح المؤثر الإسلامي كمبرر لموقفه المؤيد للحقوق الفلسطينية المشروعة، وذلك منذ عام 1921، وإن أقر بحق اليهود في زيارة الأماكن المقدسة بفلسطين، وفي الإقامة بها، بل وحيازة الأملاك، إلا أنه رفض تماماً أن تكون لهم أية سيادة شرعية على فلسطين. هكذا نظر غاندي إلى المطلب اليهودي بوطن قومي من منظور ديني خالص وليس من منظور سياسي كما كان متوقعاً من دعاة الصهيونية. فرغم أن أقرب زملاء غاندي (هيرمان كالنباخ) و(س. ل. بولاك) كانا يهوديين مغاليين في صهيونيتهما، ومن أقرب الناس إليه في جنوب أفريقيا أثناء نضاله السياسي هناك، وبالرغم من أن العلاقة بينه وبين اليهود كانت وطيدة؛ بالرغم من ذلك كلَه، فقد كان رفضه قاطعاً لادعاءات اليهود بفلسطين.
في هذا السياق، لم يكن لليهود، أو لقضيتهم موضع قدم على ساحة القارة الآسيوية، إذ أحجموا عن تأييد كل مطلب وطني تحرري ضد القوى الاستعمارية التي جسدتها آنذاك بريطانيا، وذلك بحكم تلاقي المصالح بين الطرفين، بما فسر انحياز غاندي للحقوق الفلسطينية المشروعة، وهو ما سيتأكد لاحقاً في ظل حكم حزب المؤتمر الهندي.
إلى ذلك، رفض الزعيم الهندي اقتراح تقسيم فلسطين التي أوصت به ( لجنة بيل) في تقريرها الصادر في 7 يوليو/تموز 1937. فمن المنطقي أن غاندي الذي أصابه الهلع بسبب التهديد بتقسيم وطنه لم يكن بمقدوره إلا أن يرفض فكرة فرض التقسيم على فلسطين، لأن ما لا يرضاه لشعبه لا يمكن أن يوصي به أو يقترحه على شعوب أخرى، ولهذا؛ اعترض على مبدأ التقسيم كحل للقضية الفلسطينية، ورأى في ذلك تمزيقاً للأرض وسكانها.
ولقد كان رفض غاندي للإستعمار والعنف هو العامل الأساسي المؤثر في تشكيل وجهة النظر الهندية نحو القضية الفلسطينية . ففي إحدى إفتتاحيات صحيفة "الهاريجان" في عام 1938عبر غاندي عن تعاطفه مع يهود أوربا المضطهدين، ولكن هذا لم يمنعه من أن يرى الفلسطينيين على أنهم بشر وليسوا مجرد وحدات إحصائية. ومن هذا المنظور أدان غاندي الصهيونية وإتجاهاتها العدوانية واللاأخلاقية، وكتب يقول: "إن الدعوة لإنشاء وطن لليهود لا تعني الكثير بالنسبة لي، ففلسطين تنتمي للعرب تماماً كما تنتمي إنجلترا للإنجليز أو فرنسا للفرنسيين، ومن الخطأ فرض اليهود على العرب، وما يجري الآن في فلسطين لا علاقة له بأية منظومة أخلاقية.
وعندما سُئل المهاتما غاندي في الأربعينيات عن رأيه في القضية الفلسطينية أجاب: "أنها أصبحت قضية لا حل لها"، وأستطرد موضحاً سبب ذلك في رأيه، فيقول: "لو كنت يهودياً لقلت للصهاينة، كفاكم سخفاً، ولا تلجأوا للإرهاب، لأنكم بذلك تضرون بقضيتكم التي كان من الممكن أن تصبح قضية عادلة دون اللجوء لمثل هذه الوسائل". كما ذكر" أن اليهود يحاولون فرض أنفسهم على فلسطين بمساعدة الأسلحة البريطانية والأموال الأمريكية، ومؤخراً عن طريق الإرهاب المباشر". ورغم نبذ غاندي لأشكال المقاومة العنيفة، فإن موقفه يعكس تفهماً واعياً للدوافع التي حدت بالفلسطينيين إلى انتهاج هذا الشكل من أشكال المقاومة في مواجهة عدوان يهدف إلى محوهم من المكان والزمان.وتثير آراء المهاتما غاندي عدة ملاحظات،أهمها أن غاندي يستخدم كلمة "اليهود" للإشارة إلى المستوطنين الصهاينة على وجه الخصوص وليس اليهود بشكل عام ومطلق.

وفي واقع الأمر كان موقف غاندي من القضية الفلسطينية محسوماً رغم كل ما مُورس عليه من ضغوط صهيونية، إذ رأى في تأييد الحق الفلسطيني المشروع ضربة موجهة للاستعمار البريطاني من جهة، ووسيلة ناجعة لصهر كل من هندوس ومسلمي الهند في بوتقة (الأمة الواحدة) لمواجهة المحتل البريطاني من جهة أخرى. ومن تصريحاته الأخيرة التي أدلى بها قبل اغتياله، حواره المنشور في جريدة (بومباي كرونكل) في 2 يونيو/حزيران عام 1947، إذ رأى أن الحل المقبول للمشكلة الفلسطينية يكمن في" قيام اليهود بالتخلي نهائياً عن ممارسة الإرهاب وجميع أشكال العنف الأخرى".
موقف غاندي هذا لا يعني أنه كان ضد اليهود كديانة أو أقلية في أوروبا، وهو لئن عارض قيام دولة يهودية على أرض فلسطين ووصف الفكر الصهيوني بأنه جريمة في حق الإنسانية فإنه في منفاه في جنوب أفريقيا أشاد في كثيرٍ من أحاديثه بالشعب اليهودي وكفاءته، وضرورة دعمه وتأييده في قضاياه.
وفي خضم الحديث عن موقف المهاتما إزاء القضية الفلسطينية، لا يمكن أن نُسقط التطرق إلى موقف حزب المؤتمر من القضية الفلسطينية، إذ لم يكتف هذا الحزب بقيادة حركة المقاومة ضد المحتل البريطاني، بل آزر بقوةٍ حركات التحرر الوطني ضد المستعمر أينما كانت، فكان بدهياً أن تستحوذ منطقة (غرب آسيا) المشتعلة بحركات التحرير منذ مستهل القرن العشرين على اهتمامه، لا سيما قضية فلسطين، حيث أن قضيتين محوريتين شكلتا منذ مطلع القرن العشرين موقف أقطاب حزب المؤتمر من القضية الفلسطينية، أولهما: قضية الخلافة الإسلامية وثانيهما: قضية توطين اليهود في فلسطين.
فبالنسبة للأولى، كان الموقف الهندي محسوماً منذ عام 1922، بعدم جواز وقوع جزيرة العرب في قبضة أية قوة غير إسلامية، وكذلك الحال بالنسبة للثانية، إذ حث (محمد علي جناح) ، زعيم حزب المؤتمر آنذاك، مواطنيه على مؤازرة الفلسطينيين في موقفهم الرافض للأطماع الصهيونية في وطنهم الأم. وبناءً عليه، أصدر الحزب في عام 1928 أول وثيقة رسمية تؤكد تعاطفه التام مع الحقوق العربية المشروعة، والتأييد الكامل لكل من مصر وسوريا وفلسطين والعراق في كفاحهم الوطني ضد الاستعمار الغربي. فلم يكن غريباً أن يحظى غاندي ونهرو بشعبيةٍ كبيرة لدى الجماهير العربية خلال تلك الفترة، كحفل الاستقبال الذي نظمه النحاس باشا للمهاتما غاندي في مدينة بور سعيد خلال مروره بها.
وفي ذروة أحداث ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 أعرب حزب المؤتمر الهندي عن كامل تفهمه لعدالة كفاح الشعب الفلسطيني ضد المحتل البريطاني، شاجباً "هجمات المنظمات الصهيونية الإرهابية الهادفة لإشاعة الرعب بين الفلسطينيين لإجبارهم على مغادرة الوطن"، ومطالباً بإقامة دولة ديمقراطية حرة في فلسطين مع كفالة الحقوق الدينية لليهود فيها . في هذا الإطار، بعث الحزب برسائل وبرقيات إلى العرب، أعلن فيها دعمه للمقاومة العربية في فلسطين ضد الانتداب البريطاني، واصفاً هذه المقاومة كمقاومة الهنود للاستعمار البريطاني من أجل الحرية والاستقلال.
وفيما يتعلق برؤية المهاتما غاندي للقضية الفلسطينية فقد رأى أن الاستعمار البريطاني يعتبر فلسطين بوابة غزو الشرق وتأمين خطوط الإمداد للهند.لذا شدد على أن تبقى فلسطين عربية، حتى لا تُستخدم كقاعدة للهجوم على الهند أو الإضرار بها. ففي شباط 1938، أدان غاندي بريطانيا لقيامها بتبني مشروع لتقسيم فلسطين. كما وعبّر عن تعاطفه الكامل مع العرب في صراعهم ضد الاستعمار من أجل الحرية.
وفي صورةٍ عامة، يتبين أن موقف غاندي إزاء القضية الفلسطينية فرضته عقدة الاستعمار البريطاني للهند لأكثر من أربعة قرون، تعزز فيها وعي قادتها بمعاداة هذا الاستعمار حيث وُجد، مدركين منذ البداية، أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين محاولة بريطانية لتقسيم الأرض وتشتيت شعبها إلى طوائف صغيرة من أجل زرع أجناس بشرية بعيدة عن هذه الأرض، لا يربطها بها إلا نبوءات صهيونية اختلقها المشروع الاستعماري للهيمنة على المنطقة والتحكم بثرواتها الطبيعية، ومنافذها الاستراتيجية. هذا الوعي هو الذي بلور تلك المواقف التي شكلت المنطلقات، أو المحددات العامة للسياسة الخارجية الهندية تجاه إسرائيل منذ استقلال الهند ولغاية الإعلان عن علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين في العام 1992.