الخميس: 09/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

وزير الشعب... عيسى قراقع

نشر بتاريخ: 02/03/2019 ( آخر تحديث: 02/03/2019 الساعة: 10:41 )

الكاتب: خالد عيسى قراقع
كان عمري على ما أذكر خمسة أعوام حين ذهبت برفقة والدتي وبعض الأصدقاء إلى سجن نابلس القديم، حيث تقرر الإفراج عن والدي الذي كان قد أمضى حوالي خمسة أعوام وهي آخر مدة اعتقال يقضيها بعد عدة اعتقالات سبقتها، انتظرنا على الرصيف المقابل لبوابة السجن من الخارج مدة طويلة أنهكتنا واختلطت بها المشاعر بمختلف أنواعها، حتى فتح الباب وخرج والدي وعانقناه وقام بحملي ورفعي عاليا ولا زلت أذكر لغاية اليوم معالم الفرح المرتسمة على وجهه في تلك اللحظة، لم أستطع تقبل وجوده بيننا في بداية الأمر حيث أنني اعتدت على غيابه منذ ولادتي إلى أن أُطلق سراحه. انطلقنا متجهين إلى بيت لحم، وبوصولنا لمخيم عايدة حيث كنا نسكن استقبله الأصدقاء والأقارب وأهالي المخيم بحفاوة وفرح ووزعت الحلوى وأُطلقت الزغاريد وبدأت جموع الناس تأتي للتهنئة بالإفراج.
في تلك الأيام في بداية التسعينات من القرن الماضي كانت قد بدأت مراحل التحضير لدخول القيادة الفلسطينية إلى الداخل وبداية إنشاء قواعد السلطة، وقد كان والدي وقبل اعتقاله الأخير يعمل في مركز الدراسات الفلسطينية مع شهيد القدس الراحل فيصل الحسيني وقد استمر بالعمل معه بعد خروجه من السجن.
خلال فترة اعتقاله قرر هو ومجموعة من رفاقه المعتقلين أن يقوموا بعد تحررهم من السجن على البدء بإنشاء إطار جامع يعمل على مساعدة الأسرى وذويهم ومحاولة الحفاظ على زخم قضيتهم ووضعها على سلم الأولويات في أجندات وتحركات أصحاب القرار، فقام هو وصديقه ورفيق الأسر الأخ قدوره فارس بإنشاء جمعية نادي الأسير الفلسطيني والتي استلم والدي رئاستها منذ تأسيسها عام 1994 لغاية عام 2006 حيث انتخب عضوا في المجلس التشريعي الفلسطيني عن حركة فتح.
حافظ نادي الأسير الفلسطيني في تلك الفترة على رمزية قضية الإنسان وهي قضية الأسرى وعمل النادي بكافة كوادره وفي مختلف المناطق الفلسطينية بشكل دءوب على الإبقاء على قضية الأسرى في الواجهة دائما وأعتقد انه نجح في ذلك.
في عام 2007 بعد خسارة حركة فتح وفوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الثانية تعطل المجلس التشريعي الفلسطيني عن العمل جراء الانقسام الفلسطيني. بعدها بحوالي السنتين تم اختيار والدي لتسلم حقيبة وزارة شؤون الأسرى والمحررين حيث المهمة الصعبة والمعقدة والتي تختلف بشكل كبير وعلى عدة نواحي وأصعدة عن عمله في نادي الأسير أو المجلس التشريعي، فنادي الأسير يعتبر جمعية غير حكومية لا تخضع لأي قواعد بيروقراطية تفرضها الأنظمة الحكومية ولا تخضع لأي ضغوطات تفرضها السياسة العامة للدولة سوى ما يفرضه القانون الواجب التطبيق على الجمعيات الغير ربحية وهذا بلا شك يعطي مساحة أوسع وحرية اكبر للعمل.
المدة التي قضاها والدي كوزير لشؤون الأسرى والمحررين وهيئة الأسرى والمحررين لم تكن بسيطة أو سهلة فالوزارة بالإضافة لمتابعتها قضايا الأسرى داخل السجون على مختلف الأصعدة والنواحي والمجالات يقع ضمن مسؤولياتها أيضا شريحة المحررين من الأسرى وهم بلا شك يشكلون شريحة واسعة في الساحة الفلسطينية.
مع بداية تقلده مهامه كوزير للأسرى والمحررين كغيره من الشخصيات العامة في السلطة حصل والدي على تصريح مكنه من الدخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨ وهكذا استطاع التواصل شخصيا والقيام بدوره فيما يخص أسرى الداخل وعائلاتهم وعلى رأسهم أقدم أسير في العالم المناضل كريم يونس فك الله أسره. وتعدى الأمر ذلك بأن كان يذهب إلى الجولان السوري المحتل للقيام بواجبه من دعم وتواصل مع عائلات أسرى الجولان الذين كانوا يقدرون جدا هذه الالتفاتة نحو أسراهم في السجون الإسرائيلية. وأتذكر هنا الطعم الرائع لتفاح الجولان الذي لم أتذوق تفاحا أشهى منه في حياتي حيث كان أهل الجولان الكرام يهدون والدي بعضا منه.
لم يمض عام واحد حتى صدر قرار عسكري من الجانب الإسرائيلي بسحب التصريح وبطاقة ال V. I. P من والدي فقاموا بسحبها منه على احد الحواجز العسكرية في الضفة.
عشر سنوات هي مدة عمل والدي كوزير لشؤون الأسرى والمحررين ورئيس لهيئة الأسرى والمحررين حاول خلالها قدر استطاعته أن يكون أمينا على حمل هذه المسؤولية ومنصفا للجميع بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم. لم يكن يغلق هاتفه كان يستجيب للجميع ويستمع للجميع ولم يفوت بيت لأسير إلا وتذكره بزيارة. حاول ونجح في جعل قضية الأسرى على سلم أولويات صناع القرار ونجح في تدويل قضيتهم وعرضها في المحافل الدولية كما ونجح على المستوى الداخلي في تحسين أوضاع الأسرى والمحررين المادية.
والأهم من ذاك انه استطاع خلال هذه المدة أن يبني رصيدا كبيرا من حب وتقدير الناس واحترامهم له وهذا ما كنت ألامسه في كل مكان اذهب إليه ومع كل شخص التقي به.
في العام الماضي انتهى عمل والدي من رئاسة هيئة شؤون الأسرى والمحررين وقد كان تفاعل الناس وخصوصا أهالي الأسرى والأسرى في السجون عظيما ودل ذلك على حجم رصيد الامتنان والتقدير الذي بناه والدي في نفوس هؤلاء الناس وهذا هو الكنز الذي لا يفنى. 

انه والدي .. الجد الرائع .. وزير الشعب… راهب الأسرى.. عيسى قراقع.. حفظه الله.